قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

قراءة في تاريخ أوروبا

د عمرو الحديدي
د عمرو الحديدي

استوقفني فى مطلع الشهر الماضى أثناء زيارتي لإحدى معارض الكتب , كتاب ذو غلاف شديد الجاذبية , وكثيرا ما يجذبني التناسق بين الالوان على أغلفة الكتب , فغلاف الكتاب هو عنوانه , وخصوصا إذا لم أكن أمتلك قائمة بالكتب التي أرغب فى اقتنائها . غالبا ما أتوجه صوب ركن الكتب التاريخية , فالتاريخ يزخر بالدروس والعبر ..

كان الكتاب بعنوان " أوروبا – تاريخ وجيز " لكاتب أجنبي يدعي " جون هيرست " قام بترجمة الكتاب الدكتور محمود محي الدين , وهو وزير الاستثمار الأسبق فى حكومة نظيف إبان عهد الرئيس الأسبق مبارك , وكان " محي الدين " يشغل منصب مدير البنك الدولي كأول مصري وعربي يشغل مثل هذا المنصب المرموق.

اجتذبني الكتاب , كما اجتذب مترجمه ,وسلاسته فى الطرح , وأسلوبه فى العرض , بشكل لا تستطيع معه , إلا استكمال قراءة الكتاب حتي أخر صفحة , وربما قراءته مرات متتالية !

تناول الكتاب الحقب الزمنية التى توالت على القارة العجوز " أوروبا " , إذا كنت تريد أن تعرف سر النهضة الأوربية , عليك أن تستنبط الدروس المترتبة على توالي تلك الحقب , وما أفرزته من عوامل أثرت فى طبيعة الشخصية الأوروبية , حتى نتج عنها هوية أوروبية متكاملة , استطاعت أن تجلب الحضارة والتقدم إلى أراضيها.

فالتاريخ الأوروبي ينقسم إلى عصر كلاسيكي وهو العصر اليوناني والروماني ثم العصور الوسطى ثم العصر الحديث , ويشير الكاتب إلى أن هناك ثلاثة عوامل أثّرت فى بناء الهوية الأوروبية وهي " التعاليم اليونانية الرومانية – الديانة المسيحية – المقاتلون الجرمانيون ".

وبالنظر إلى الحياة السياسية فى أوروبا القديمة , فلقد اخترع الإغريق اليونانيون الديمقراطية كما اخترعوا السياسة وهو شكل للحكم كان يتم بالحوار بين كل المواطنين ويسمح بأغلبية التصويت , ورغم ذلك اقترنت الديموقراطيات باضطرابات هائلة , ولم يكن الحق فى الحوار مكفولا للنساء أو العبيد , فى إشارة للتمييز العنصري الذى كان مسيطرا على الساحة رغم تواجد شكل من أشكال الديموقراطية !

ومع هذا كان فلاسفة أثينا الكبار " أفلاطون – سقراط – أرسطو " يرون أن عموم الناس متقلبون ولا يستقرون على رأي ولذلك كانت الديموقراطية بالنسبة لهم خطأ كبير !!

والديموقراطية اختراع ظهر فى أثينا حينما تفاقمت قوة الجنود فى الجيش , وأصبح لهم رأي معتبر فى الحروب وقرارات السلم والحرب , لما مثلوه من كتلة كبيرة .

وقيام الديموقراطية فى أثينا , لم يشفع لها أمام زحف الإسكندر الأكبر حاكم مقدونيا التي تقع فى الشمال من أثينا , والذى سيطر عليها فى القرن الرابع قبل الميلاد , ومع احتلال الإسكندر لأثينا , لم تندثر ثقافة اليونان , بل ظلت راسخة حتى مع غزو روما لها ..

أما روما فحكمت من قبل الملوك , حتى سقوط أخر ملك مستبد لها وكان الملك " تاركين " فى حدود العام 500 قبل الميلاد , وأسست الجمهورية الرومانية على أنقاض روما المملكة , وقد استعرض شكسبير هذا التحول السياسى الهام عبر قصيدته " اغتصاب لوكريس " , فلقد قامت الجمهورية بسبب جريمة اغتصاب , ولم يكن المغتصب هو الملك تاركين نفسه , بل كان ابنه " سكتس تاركينوس " حينما اغتصب امرأة رومانية شريفة تدعي "لوكريس " زوجة أحد قادة الجيش,والذي ثأر لها كان " بوروتوس " ابن شقيق الملك , الذى ثأر لعائلته منه . ويُظهر الكاتب مدى إخلاص المؤسسين الجدد لجمهوريتهم , حتى أن " بروتوس " نفسه قرر إعدام ابنين له حينما علم بمؤامرتهما ضده , وتحمل لوحة " جاك – لوي ديفيد " المرسومة فى فرنسا فى نهاية القرن السابع عشر , مشهد تقرير مصير ابني بروتوس وتنفيذ حكم الإعدام فيهما , وهو مشهد تجلي فيه إصرار هائل على الحفاظ على الجمهورية الجديدة , مقابل بأس وغلظة أب تجاه أبنائه .

ولقد استمرت الجمهورية الرومانية لمائتي عام , حتي أصابها الوهن والضعف بسبب نزاعات حدثت بين قادة الجيش الروماني , برز من خلالها " يوليوس قيصر " الذى حارب من أجل إزاحة " بروتوس الثاني " , ليعلن " أغسطس " وهو حفيد شقيق " يوليوس قيصر " نهاية فصل من فصول النزاع فى روما , وينصب نفسه امبراطورا لروما فى 27 قبل الميلاد .

وقد اختلف حكم الأباطرة عن حكم الملوك , فلقد كانت تسوده ديموقراطية جزئية , كان الإمبراطور يختار من يخلفه , لكن يجب أن يوافق " مجلس الأعيان " ولم يكن بالضرورة من يخلف الإمبراطور ابنه او قريبه , كما كان يحدث وقت الملوك .

حاول " أغسطس " استعادة قيم روما القديمة النبيلة الخاصة بالأسرة والقتال والجيش , ومع إظهاره لبعض مظاهر الديموقراطية , إلا أن نفيه للشاعر " أوفيد " الذي كتب عن أن النساء يفقدن جمالهن بعد إنجاب الأطفال , عكس جانبا مظلما من الديموقراطية المنشودة .

استعراض هذا الجانب التاريخي فى حياة أوروبا السياسية , يثبت بوضوح أنها كانت تناضل من أجل حريتها وديموقراطيتها منذ سنوات طويلة , وربما أنتج هذا النضال ما نري اليوم من تقدم , ومع ذلك لم تكن الديموقراطية وحدها سببا فى الرخاء , وهذا ما ثبت فى أثينا بعدما سقطت بحوذة الإسكندر , بل وجود ثقافة وهوية , وعلم وقيم , هو ما أعاد أوروبا من جديد فى عصور النهضة ..

وسنستعرض لاحقا كيف ساهمت الثقافة اليونانية والرومانية القديمة في صنع ما نشهده اليوم من تقدم أوروبي.