الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

إلى صغيري مروان

هبة النجار - الباحثة
هبة النجار - الباحثة بالأزهر الشريف

ما أقسى ما يلاقي المرء من هذه الحياة خاصة عندما تعبس في وجهه وهو لا يزال غصنًا صغيرًا، لا يقوى على مقاومة الرياح حين تعصف به، تلملمه مرة وتبعثره مرات، فينثني وينعطف ويميل طرفه نحو الأرض، بعد أن كان يلتقي مع أشعة الشمس ونور القمر، ويرمق النجوم ويعرف مواقعها من أديم السماء.

وما أقبح الوجوه التي إن أبصرت فقيرًا أو محتاجًا أو مريضًا  عبست وبسرت وضنت بالكلمة الطيبة، ولو أنها هشت وبشت ما كان أصحابها ليحتملوا غرما ماديا ينقص مما في أيديهم من المال، بل كانت بسماتهم التي تخفف آلام المعاناة وتنسي مكابدة الأحزان والأتراح، ولو بقدر ما ترتسم على الشفاه، عملا يزداد به رصيدهم من أعمال البر، ويُثقِّلُ كفة حسناتهم يوم القيامة، بهذه الكلمات أُذكر نفسي أولا...  ولنبدأ معًا قصة مروان. 

قدر جمع بيني وبين مروان في محطة قطار "المترو"، طفل في الثالثة عشرة من عمره،كان يحْجِلُ على قدم واحدة، رأيته، وفي قرارة نفسي أنه إنما يتظاهر بذلك للتسول وكسب تعاطف المارة، لم أبالِ لأمره، وظننت كما يظن الكثير أنه يجذب تعاطفهم ليأخذ ما تجود به أيديهم، وعندما نزل في نفس المحطة التي أغادر فيها قطار المترو، إذا به يقف مطرقًا مُنَكِّسَ الرأس، قد ضاق ذرعًا بهذه الحياة، فلم أشعر حتى وجدت نفسي مندفعة تجاهه، ولا أدري ما الذي دفعني فجأة نحو هذا الصغير البائس، فقد خالجني أكثر من شعور، وأنا أجزم بعد هذا الموقف، أن المرء مهما عرض الأشياء على عقله، فإن العاطفة لها النصيب الأكبر في توجيه الإنسان، لقد سرت نحو هذا المسكين، وإذا بي أسأله: ماذا بك أيها الصغير؟  فقال: منذ خمسة أيام أعاني ألـمًا في قدمي بسبب دخول مسمار فيها، ومن وقتها تورمت ، حتى أنني لا أستطيع الوقوف عليها، وقد ألجأني هذا للسؤال، خصوصًا بعدما أخبرني أصدقائي أني إن لم أسارع إلى علاجها ربما أفقد ساقي كلها.

نظرت إلى قدمه المتورمة، وتأكدت من ضرورة التدخل الجراحي فلن يجدي معه الدواء أو المسكنات، فتوجهت معه إلى مستشفى قريب – بعد دخول عدد من العيادات الخاصة التي لم تستقبلنا نظرًا  لتطور حالته-  ودخلنا من باب الحالات  الطارئة في المستشفى ، فإذا الجميع يبادر إلى مساعدة هذا الصغير، بدءًا من رجل الأمن إلى طبيب القسم الذي بدا مستاءً بداية الأمر مما وصل إليه حال الصغير، وكأن القدر ساق كل من في قلبه خير ورحمة لهذا الصغير، الذي لطمته أمواج الحياة العاتية حتى  أفقدته الثقة في أنه قريب من شاطئ النجاة، التقط الطبيب أدوات الجراحة، وبدأ في تنظيف موضع الجرح، ولكن الصغير كان يمانع ويقاوم، شأن الصبية والفتية الذين في مثل عمره، وبعد أن أتم الطبيب علاجه خرجنا من المستشفى، وبدأت أتنفس  الصعداء ثم أحضرت له الدواء، وكان مما لفت انتباهي شدة حرصه على معرفة موعد تناول الدواء، وقد أخذ يسألني مرة بعد أخرى عن عدد الجرعات وموعدها بالضبط.

وعندما عرضت عليه أن أقدم له وجبة طعام؛ حتى يستطيع تناول الدواء، خاصة أنه عاني كثيرًا من البكاء والصراخ مما كان به من الألم، فقال لي: لا أستطيع أن آكل. فقلت متعجبة: لماذا؟ فقال: أخي الصغير ينتظرني.
كنت أعتقد أن الأمر سينتهي عند خروجي من المستشفى وتقديم طعام أو مشروب دافئ لهذا الصغير الذي كان يرتجف جسده وقدمه من الألم، وشدة البرد،  وسأعود إلى بيتي وأولادي  وأنا أشعر أنني قدمت إنجازًا للإنسانية، ولكن يبدو أن الأمر لم ينتهِ بعد ..
سألته: أين هذا الصغير الآخر؟ قال: أفترش الرصيف أنا وهو، فقد تركنا البيت منذ أعوام، ولا نريد العودة،  فنحن بخير الآن.  

تساءلت في نفسي متعجبة كل العجب: أهذا الصغير يعتني بأخ له أصغر منه؟! فمن يعتني به؟  وأي خير يجده هذا الصغير بعدما طرحت به الحوادث والخطوب بعيدًا عن حضن أبويه؟
استطرد مروان قائلاً، ونظرات عينيه تنم عن ثقة وشجاعة  : إن أخي  ينتظرني الآن ولا أستطيع أن أتأخر عليه ... لقد كانت معاملة أبي قاسية. ثم استدرك قائلا: هل تعرفين أنه لم يكن ليهتم بي في مثل هذه الظروف، كان سيتركني؛ لأنه لا يريدني.

لم أكترث لهذا الأمر، ووقفت في حيرة من أمري؛ فالأمر لن يتوقف عند مجرد العلاج والمأكل والمشرب وحتى بعض الملابس، هذا الصغير وأخوه بلا مأوى، فيا لها من ليلة! ما أكثر ما تـَمَخّض عنها من أحداث!
أصبحت الآن مسؤولة عن هذا الصغير البائس، كنت أنظر إلى السماء، أقلب بصري فيها، فالأرض قد ضاقت على هذا المسكين وعلى أخيه، وأخذت تضيق عليّ بعدما رأيت من حالهما، فلو أني استطعت وقتئذ أن أُبصر ما وراء الأفق، فأجد مأوى لهذا المسكين ولأخيه لفعلت. 

أحسست أني عاجزة عن تخفيف آلام هذا الفتى، وودت لو صرخت في ضمائر من حولي من الناس؛ ليهب ذوو النجدات والمروءات إلى مساعدته ورعايته، بيد أني وجدت نفسي عاجزة عن استصراخ الناس، ووجدت أن مثل هذا لؤم مني، فقد شرعت في فعل المعروف وعلي أن أتمه.
وفي هذه الليلة القاسية البرودة والأحداث تساءلت: ماذا أفعل الآن؟ وفي ظل هذا الصمت الحزين الذي خيم على وجهينا سألني: هل ستُودعيني في مؤسسة للأطفال؟ وكأنه قرأ ما يدور في رأسي، وكان هذا بعض الخيارات لديّ، فقلت له: وهل تمانع؟ فتوقف عن السير  ونظر إليَّ مستجديًا، وقال بصوت خالطه حزن وشجن:أرجوكِ لا تفعلي.  فقلت له: لماذا؟ فأخذ يجهش بالبكاء وقال: لقد كنت في دار لرعاية الأطفال، ولكني كنت أتعرض للضرب فتركتهم وأنا الآن في حال أفضل مما كنت عليه وأنا في تلك الدار، فأنا بخير . 

ولكم أن تتخيلوا مدى الخير الذي يتحدث عنه مروان،!  قاربت الساعة على التاسعة مساءً، ولا أدري هل أترك هذا الصبى الذي عرفت منذ دقائق أنه مسؤول عن صبي آخر في العاشرة من عمره؟ هل أترك الاثنين؟ وما حيلتي الآن؟ حاولت تهدئته، وهو يخشى أن أودِعه في مكان قد وجد الشارع أأمن منه. 
ولكن لابد أن أتركه، أقصد أتركهما، ولسان حالي يقول: يا لهذه الليلة ! وعندما رآني الفتى مطرقة حزينة، قال لي: هل تعلمين أن لي عملاً أقوم به.  فنظرت إليه باهتمام وقلت: حقًا، ما هو هذا العمل؟ قال: أقوم ببيع بعض الشوكولاتة في عربات المترو للأطفال والأمهات.

ازدادت حسرتي عليه وعلى طفولته البائسة، يبيع مروان الشوكولاتة التي تدخل السعادة على قلوب الأطفال، بل والكبار، عندما يذوقون حلاوتها، إلا أنه يبيعها، وفي فمه مرارة من شظف العيش وقسوة الحياة، بل ربما لم يهنأ مرة بتذوق الحلوى التي يبيعها.
وعندما لاحظ على وجهي مخايل الحزن والأسى، صمت هو الآخر. تملكني شعور بالانكسار في هذه اللحظات، إذ إنني عجزت عن أن أقدم  لمروان ما يُـمَكِّنه من العيش كما يعيش أقرانه من الأطفال، فبلد لا يعاني من ويلات حروب أو مجاعات أو أزمة اقتصادية حادة، بل به أثرياء وشخصيات مجتمع، البعض منهم يغسل وجهه بصابون من ذهب ، وينام على فُرشٍ من الحرير، خليق به أن يُعنى بهؤلاء الذين لا مأوى لهم وأن يهتم أكثر لأمرهم، وأن تكون به حملات توعية للمجتمع؛ ليكون لأفراده دور في العناية بهؤلاء. 

صغيري مروان!
لا ذنب لك في أن تولد في أسرة هي أبعد ما تكون عن الإنسانية والشعور بالمسؤولية، فدع عنك الحزن والانكسار، ولا تفقد الأمل في مستقبل سعيد، وليكن رجاؤك في الله كبيرًا. 
بعد تفكير مليٍّ قررت أن أساعد مروان، وتذكرت علاقتي بسيدة مسؤولة عن دار للأطفال الذين لا مأوى لهم. بعثت هذه الفكرة في نفسي الطمأنينة وشيئًا من راحة الضمير. 
الآن أستطيع أن أتركه ريثما أرتب له مكانا يناسبه، وقد عرفت منه المكان الذي يفترشه مع أخيه في محطة القطار، ووعدته بأنني سأساعده في الحصول على مكان آمن، وسيلاقي معاملة حسنة هو وأخوه، وكنت قد عقدت العزم على أن أستعين بالجهات الاجتماعية للوصول إلى والديه إن أمكن هذا، أو يستمر في دور الرعاية التي توفرها وزارة التضامن الاجتماعي وتشرف عليها.

صغيري مروان..
قد أتركك الآن يا صغيري، ولكن لا تقلق، وأظنك لن تقلق، أقصد لا تخف، وأظنك شجاعًا لا تخاف مواجهة مصاعب هذه الحياة. على أية حال لست وحدك الآن، فأصحاب القلوب الرحيمة مسؤولون عنك جميعًا. لقد وعدتك أنني سآتي إليك وسأساعدك بعون الله. 
ومهما كانت أحلامك صغيرة كعمرك الصغير، فقلبك كبير لدرجة أن يسع همومك وهموم أخيك، فإن كنت لا تنتظر أن ألحقك بمدرسة أو مكان رعاية أو شيء من هذا القبيل، وإن كان كل ما يُسعدك أن تعود بالليل لأخيك بالطعام، وأن تجد مأوى لك في الطرقات والشوارع أو على أرصفة القطارات، فآمالك وأحلامك ينبغي ألا تتوقف هنا. 

صغيري مروان .. 
لقد كانت أمسية حافلة بالأحداث، التي كنت أنت محورها يا صغيري، ساقك  القدر لي أو ساقني لك، ما يهمني الآن هو أنني سأسعى بكل طاقتي لرسم ابتسامة على وجهك الحزين الذي لم أر به إلّا الدموع تنهمر كاللؤلؤ على فاصديك.
ودّعت مروان على أمل في لقاء قريب أطمئن على أحواله وأحوال أخيه.

القارئ الكريم:  حاولت أن أنقل لك  حكاية  مروان هذا الطفل الشجاع الرحيم بأخيه، لقد  ترك مروان بنفسي أثرًا كبيرًا ومشاعر إنسانية عميقة، وتفاصيل كثيرة منها طبيب  قسم الطوارئ الذي سعى بكل جهده  للتهدئة من رَوع الصغير، وبدا من حديثه أصله الصعيدي الطيب، وذكائه في معاملة الصغير الذي لا يثق كثيرًا بأحد،  وجلوسي في صالة الانتظار وأنا أشاهد الحالات التي يستقبلها المستشفى ومسارعة الطواقم الطبية لإسعافهم ، مكان رائع لمن يظن نفسه  أنه في أسوأ حالاته!! ونظرات الصغير لي وكلماته وأنا أودَعه، وشكره لله الذي رقق قلوب العباد له، وبعض الكلمات الصامتة والأسئلة التي رأيتها في عينيه هل ستأتي مرة ثانية، وهل ستساعديني أنا وأخي؟  هذه المواقف المتتالية والمتسارعة جعلتني أفكر جديًا في عمل مجتمعي يخدم الناس،  ويُرضى عني ربي، علّنى أقابل الله، وقد قدمت يد العون لأحد من خلقه، راجية رحمة الله التي وسعت كل شيء.

وما زال للحكاية بقية ..