الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

نهال علام تكتب: مصر بعيون مغربية

نهال علام
نهال علام

وكل مرة وكأنها أول مرة، طقوس الشغف التي لا تنتهي، ترانيم التوقع التي تصدح ولا تنجلي، بروح الطفلة أضب حقيبتي، وأهرع قبل ساعات من رحلتي لأبدأ رحلة خاصة على متن طائرة الفقد والفرح والشوق والترح في عيون المسافرين، أتجول في أروقة الوجوه أتأمل ملامح الوجوم وتأسرني علامات الشوق للعودة والوجود بين دروب الحنين المفقود.

الحبيب والغريب والقريب وأمنيات ترجو الله ألا تخيب، دمعة تستقبل وأخرى تستودع وبينهما حلم يضرب بجذوره في دروب قلوب تجوب بلاد الله لعلها تذوب بعد أن تضرب فأس أمالها في أرض وأن كانت غريبة، فالغريزة بالبقاء هي من تعد بالعودة وتلتمس الدعوة.

صحبة الطائرة قد تكون إحدى نعم الرحلة أو النقم الفادحة، فمن يجلس بجوارك يصبح كأهلك ودارك تتشاركان الوجهة وتقتسمان اللحظة وتجمعكما اللقمة، تتشاركان الحكايات وبعض القصاصات من أروقة الذكريات وكلاكما على علم أنه بعد لحظات ستبتلع أرصفة الوصول ما تقدم وتأخر من تلك التفصيلات، لكن مرحى بالفضفضة على مفارق الطرقات.

رائع هو السفر والأروع هي حكاياته، الشوارع التي نخطوها للمرة الأولى، الروائح التى تسكن أرواحنا من الوهلة الأولى، الضحكات التي تستقبل غربتنا بالترحاب، والابتسامات التي تتقبل الاختلاف وتدعو بصدق للاختلاط في نسيج الأرض المضيفة حتى لا نشعر بالاغتراب.

والسفر بلا شك هو حظ الاختيار وليس دائما محض قرار، فبعض الأماكن لا نختارها وإنما هي من تختارنا، فليست كل الشعوب مرحبة ولا كل الأراضي جاذبة، ولا كل الناس رفقة طيبة، حتى وإن كانت مرحبة، فالفرق كبير بين حميمية اللقاء من أجل المحبة وهي جزء من عقيدة الشعب، وحرارة استقبال باردة من أجل الدعاية وذلك نهج البعض.

ذهبت إلى المغرب للمرة الأولى للمشاركة في معرض الرباط الدولي للكتاب، وإذا كان للسفر فرحة فالسفر برفقة الكتب له فرحتان، جميل هو ذلك اللقاء المرتقب بين كاتب وقارئ، فالسفر يمنحك فرصة قراءة ظواهر الأمور لكن في محافل الكتب يجعلك عابراً بين المشاعر والعقول، تلمس الحقيقة وتستوعب مئات القصص التي ترسم صورة دقيقة، تسمع حكايات عن من سبقونا للقبور ومن كانوا يوما ساكني القصور، نتبادل الأدوار فيصبح الراوي هو شهريار زمانه ينصت لألف كلمة وكلمة، وما تحمله الأحاديث من ذكريات عطرة.

البلاد رزق أوسعه ذلك الذي ينبض بالمحبة، تعبر البلاد بتأشيرة الدخول وتتسلل لأهلها بخطاب القبول المدموغ بسؤال إنتي مصرية! والذي تعني إجابته إنني فتحت طاقة من رياح الحب والإعجاب والتقدير الحية.

جميل هو الإعتراف بالجميل، لا زال القارئ المغربي يبحث عن نجيب محفوظ ويوسف السباعي ويحيي حقي وغيرهم، يسأل عن مصر ويطمئن على أحوالها ويسعد بطيب أخبارها، يؤكد أنه ما تعلم حب القراءة إلا بفضل الكتابات المصرية، وما تابع من الفنون إلا بلسان المصري المفتون، أم كلثوم لازالت تصدح في الشوارع، شادية كانت الرفقة في يوم ممطر عاصف انعدمت فيه الرؤية فيدندن السائق سوق على مهلك سوق فأبادله الغناء بكرة الدنيا تروق فتنهار ضبابية الجو على مرفأ ضحكاتنا.

عمرو دياب مسموع ومحمد منير مرغوب وأنغام سلطانة، لكن المشكلة في الدراما التى التفت عنها الجيل الجديد فبحسب أقوالهم إنها مزعجة بسبب البلطجة والضجيج، وتلك الصورة التى نصحهها اليوم بعد سنوات الانفلات الدرامي التى تلت الانفلات المجتمعي بعد أحداث يناير 2011.

الحب مسؤلية والتقدير تاج تلزمه الرأس العالية، لذا كل تلك المشاعر من الاحتفاء والمودة وهذا الود الموصول لتاريخنا وتراثنا وثقافتنا وهويتنا وذلك الاحترام المكنون لذاتنا فقط عندما نعلن مصريتنا، مسؤولية مرعبة أن نكون على قدر تلك الأمانة التي منحتها لنا مصرنا الغالية بكوننا أبنائها، سفراء بلادنا أينما كنا وتلك تركة لو تعلمون عظيمة.

أبهرتني الرباط برونقها وبديع خضرتها وطبيعتها الرحبة، نهر أبي الرقراق الذي يحتضن المدينة برفق ليعانق المحيط الأطلسي بدفء، مدينة تاريخية لازالت أسوارها الشاهقة تتعبد في محراب الجمال شاهدة على التاريخ وهو يمر من هنا، والحاضر الذي يسكن خلفها والمستقبل الذي ولت قبلتها وجهه، التاريخ يتنفس حياً في المدينة العتيقة، وفي العطفة والزقاق والحارة كلها تنبض بحكايات هادئة لا تخلو من الإثارة، فالناس يقطنون البيوت التاريخية في المساكن التى عاش فيها أجدادهم من مئات السنوات واليوم الأحفاد يقطنون البيوت ويرفعون راية العمل والمحبة والترحاب لكل زائر.

المغاربة شعب مضياف محب وكريم، أبواب البيوت مفتوحة والجودة من الموجودة، شعب يعي قيمة السائح وأن الدعاية الحقيقية تأتي من تجربة الزائر الروحية وليس مجرد إعلانات تجارية، المواطن ملتزم.. سكين القانون على الجميع فالكل على خط البداية متراصين.

بقدر ما استطعت من الوقت والشوق سبيلا… لم أترك رصيفاً لم افترشه ومطعماً شعبياً لم يحل عليه فضولي ضيفاً ليكتشف أسرار الشاي المغربي والطانچين والزعزوع والزميطة والهبريشة والسيبا والباستيشيو والحلوى المغربية التي شاركت في إعدادها في ذلك المستقر الهادئ في الأوداية الساحرة، وهي منطقة للبيوت التاريخية يسكنها أبناء البلد بملامح الحياة العصرية تطل على النهر وتري المحيط في لوحة خلابة لهذا العناق الفريد بين الحداثة والتاريخ.

أما الكسكسي فكانت لي معه مغامرات حيث لا يتم تقديمه إلا يوم الجمعة على وجبة الغداء ولأن فعاليات المعرض لا تنتهي قبل الثامنة مساء، فجبت شوارع البلد أسأل على من يقدمه ليلا طواعية، وشاء الله ألا يخذلني وتفوتني تجربة الكسكسي في عقر داره حتى ولو كانت قسمتي ما بقي في قعر الإناء، قدمه لي صاحب مطعم طيب من أهل سلا التاريخية كاد أن يوشك على الإغلاق وتراجع بعد أن رأف بحالي وقرر ألا أرجع لبلادي دون المرور بتلك التجربة الفريدة وقدم لي ما تيسر له من وجبة ممزوجة بالسعادة والصدق في محاولة اسعادي.

العلاقات السياسية والدولية بين الدول أمر رسمي هام لا يمكن إنكاره، لكن علاقات الود والمحبة الشعبية وجملة مصر أم الدنيا بذلك الحب أمر آخر لا يمكن قياسه إلا ببريق العينين عندما يحل اسم مصر وانعكاس الضوء على النواجز التي تظهر مع ذكر إفيه لإسماعيل ياسين أو استحضار موقف لعادل إمام وفؤاد المهندس وحتى اللمبي وحلمي، عظيمة يا مصر يا حلوة الحلوات وجميلة الروح يا مغرب بعشقك لأم الدنيا.. وبين كل تلك المشاعر الحقيقية الدافئة ذاب قلبي في أروقة التاريخ الممتد بين القلعة المصرية وشالة المغربية.