قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

د. محمد بشاري يكتب: ميزان الطيب .. بين العقل المقاصدي والذوق العرفاني

د. محمد بشاري
د. محمد بشاري

إن العالِم إذا صَفَا قلبُه، وزَكَت بصيرته، وأحسن النظر في شرع الله تعالى، صار نطقه فتوى، وسكوته حكمة، وموقفه ميزانًا بين أمرين: بين تعظيم أمر الله، ومراعاة خلق الله. وإذا كان أهل كل زمان يُبتلون بمن يدّعي الاجتهاد بلا بصيرة، فقد أكرم الله هذه الأمة في هذا العصر برجلٍ اجتمع فيه من علوم الأوائل، وأخلاق العارفين، وبصيرة الفقهاء، وعقل الحكماء، ما يُحيي به الله شريعةً طُمست معالمها في ضجيج المنابر، وشُوّه خطابها بين غلوّ وتفريط، ذاك هو الإمام أحمد الطيب، شيخ الأزهر، ضميرُ الأمة وميزان عقلها، ومفتي الزمان بلسان المقاصد، لا المصلحة الضيقة، وبنور الوحي، لا بإملاء السياسة.

قد يُظن بالاجتهاد أنه استرسالُ رأي، أو مسايرةُ واقع، أو تفلّت من أصل، ولكن الإمام الطيب أثبت أن الاجتهاد عند الراسخين فقهٌ للواقع بنور النص، وتأويلٌ للنص بميزان المقصد، ومزاوجة بين الحكمة والتزكية. ومن تأمّل قوله وسيرته، علم أن الرجل لا يستفتي هواه، ولا يشتغل بما يشغل به الناس أنفسهم من خصومة الظهور، بل هو مشغول بتعظيم حرمة الإنسان، وتحقيق مراد الله في الخلق، وسوق الناس إلى ربهم في هدوء العقل، ونور الرحمة. ولقد صدق من قال: من تكلّم بنور الفقه، صمتت عنه الأهواء، وانقادت له القلوب.

رأيته أول مرة في مجلس أستاذنا الدكتور حمدي زقزوق، قبل ثلاثين سنة، فكان كلامه كأنما صِيغ في معمل الجويني، وروحه روح الغزالي، وعقله عقل القرافي، ولسانه لا تخطئه رائحة التزكية السكندرية.

 لم يكن حديثه تكرارًا لموروث، بل مساءلة للموروث بعين المقاصد، وإنصاف للواقع بلا انسحاقٍ فيه، فهو لا يرى أن الإنسان المسلم في الغرب يحتاج إلى فقه “أقلية”، بل إلى خطاب يكرّمه بصفته إنسانًا، كما أكرمه الله، لا بوصفه نازحًا عن المركز، أو ذائبًا في الهوامش. وهذه البصيرة لا تصدر إلا عن عقل رأى في الشريعة رسالة، لا سلطة، وفي الفتوى نصيحة، لا منازعة.

والإمام الطيب في كل مواقفه لا يتكلّف التجديد، ولا يدّعيه، بل يمشي فيه مشيَ العارف: بخطى وئيدة، ولكن بثقة العارف بربه، والعالم بزمانه، والمستمسك بأصوله.

 ما جدد إلا حيث وجب التجديد، ولا جمد إلا حيث لا يُصلح الأمر إلا بالثبات. فهو مع الغزالي في أن الفقيه الحق من أدرك مقاصد الأوامر والنواهي، ووازن بين المآلات والمقادير، ومع الجويني في أن الاجتهاد الحقيقي لا يكون في المظاهر، بل في وزن المصالح ودرء المفاسد، ومع القرافي في أن المقصد هو مناط الترجيح في الفتيا، فإذا اختلف الفقهاء، رجحنا من أدرك قصد الشرع، لا من استظهر النص فقط.

في دعوته إلى تفعيل المجامع الفقهية، لا يسعى الإمام إلى مجرد رأي جماعي، بل إلى استرداد دور المؤسسة الشرعية بوصفها ضامنًا لوحدة الأمة، وفاعلًا في حفظ الأمن المعرفي، الذي هو أصل كل أمن سياسي أو اجتماعي. وهو إذ يصوغ ذلك بلغة الأزهر، لا يتكلم عن عزلة، بل عن مركزية الاعتدال.

 رأيته يزن الأقوال بميزان الشرع لا بميزان الهوى، ويزن العبارات بلسان الحال لا فقط بلسان المقال، ويختار من الألفاظ أحسنها، ومن المعاني أرفقها، ومن الأحكام أعدلها، ولا يترك بابًا للفتنة إلا وأغلقه، ولا نافذة للغلو إلا وسدّها.

وإذا نظرت في وثيقة “الأخوة الإنسانية”، التي وضع فيها يده بصدق وتجرد في يد البابا فرنسيس، لم تجد مجاملة، بل اجتهادًا مقاصديًا، يرى التعايش فريضة شرعية، لا هدنة سياسية، ويرى كرامة الإنسان فوق كل اعتبار. فهو لا يقول بذلك طلبًا لترضية، بل تطبيقًا لوحيٍ جاء بشهادة العدل، لا بشهادة العصبية، إذ قال الله: “كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ.”

ولم يكن التميز في الإمام الطيب في فكره فقط، بل في سلوكه أيضًا، وهو الجانب الذي غفل عنه كثير من المتكلمين في التجديد. فإنك ترى في كلماته تواضع العارف، وفي مواقفه تجرد العابد، وفي وجهه سكَنًا من سكينة أهل التزكية. فكأن الرجل جمع بين علوم الأحكام، وأنوار الأسرار. فإذا تكلّم، رأيت كلام الجويني بعقلانية الغزالي، وإذا صمت، رأيت تواضع الصوفية، وإذا أفتى، قرأ عليك حجج القرافي، وإذا حضر، شعرت بلسان الأزهر الناطق في زمن صمتت فيه كثير من المعاني.

فهو لا ينطق بلغة شيوخ السياسة، بل بلغة أهل الإحسان، ولا يُفرّق بين وظيفة العالم ووظيفة الإنسان، لأن العالم عنده شاهدٌ على الحق، وناصرٌ للمستضعف، وحارسٌ لمعنى الدين في زمن المحو والإفراغ. وإذا كان الناس يبحثون اليوم عن نموذج جامع، فإن الإمام الطيب هو هذا النموذج الذي يندرج في سلك العلماء الحراس، لا الفقهاء الحرفيين، وفي جملة المجددين الهادئين، لا الثائرين المتسرعين.

ومن تأمل في صمته، علم أن الصمت عند العالم قد يكون أبلغ من ألف فتوى، وأن التهيب من الكلام ليس عجزًا، بل توقيرًا لمقام البيان. فهو يزن قبل أن يتكلم، ويختار قبل أن يُفتي، ويصغي للواقع قبل أن يُسطر الحكم. وهذه حال من عرف أن العلم أمانة، وأن الفتوى ميثاق، وأن الاجتهاد موقف بين يدي الله، لا بين أضواء الكاميرات.

فيا أيها المتعجلون على أبواب الشهرة، ويا من جعلتم الفتوى سلعة إعلامية، انظروا إلى هذا الإمام الوقور، الذي جمع بين العقل والتزكية، وبين المقصد والواقع، وبين الحجة والرحمة، فعرفتم أن الاجتهاد لا يكون في الصوت المرتفع، بل في النفس المطمئنة، ولا في الجدل المنفلت، بل في القول السديد.

هنا يتجلى الإمام الطيب بوصفه مثالًا لفقه جامع، يجمع بين عمق الدرس، ونقاء السلوك، ورجاحة الموقف. لا يُفهم حضوره من خلال الشعارات، بل يُقرأ في سكينة عباراته، وفي حكمة صمته، وفي عدل فتواه. ومن لم يفقه معالم هذا النموذج، ضلّ طريق الاعتدال، وفقد رشد الاجتهاد، وأسرف في الادعاء باسم الإصلاح. ومن هنا، فإن من أوجب الواجبات على طلبة العلم الشرعي، أن يتأملوا في تراث هذا الإمام، ويغوصوا في معاني خطابه، ويستنطقوا سلوكه العلمي، ليقفوا على ملامح مدرسة تُعلّم كيف يكون العلم ميثاقًا، لا صدى، ومسؤولية، لا تزيّنًا.