في خطوة وصفت بـ"الثورية"، أعلن البنك المركزي المصري وعدد من البنوك الكبرى في البلاد عن حزمة قرارات غير مسبوقة، تهدف إلى إحكام السيطرة على حركة النقد الأجنبي وضبط استخدام البطاقات الائتمانية خارج البلاد. هذه القرارات، التي جاءت وسط أجواء اقتصادية دقيقة وتحديات متنامية في سوق الصرف، تسعى إلى إعادة الانضباط إلى السوق، ومحاربة المضاربات، وتعزيز الثقة في الجهاز المصرفي المصري.
وبينما يرى بعض الخبراء أنها ضربة قوية للسوق السوداء، يعتبر آخرون أنها بداية لمرحلة جديدة من الشفافية والانضباط المالي، تضع مصلحة الاقتصاد الوطني في صدارة الأولويات.
البنك المركزي يشدد القواعد... ويلغي شرط إثبات السفر
في أحدث تحرك له، أعلن البنك المركزي المصري تعديل القواعد المنظمة لاستخدام البطاقات الائتمانية خارج البلاد، مؤكّدًا أنه يتابع عن كثب التطورات المرتبطة بعمليات الدفع الدولية.
وجاء القرار الجديد ليلغي البند رقم (2) من الكتاب الدوري الصادر في 29 أكتوبر 2023 (والمعدل في 11 فبراير 2024)، الذي كان يُلزم العملاء المسافرين بتقديم ما يثبت وجودهم خارج مصر مثل أختام المغادرة والوصول أو مستندات الإقامة خلال 90 يومًا من تاريخ تفعيل حدود الاستخدام الخارجي للبطاقات.
لكن هذا الإلغاء لا يعني غياب الرقابة، إذ شدد "المركزي" على أن البنوك ما زالت تملك الحق الكامل في متابعة الاستخدامات، والتأكد من أن المعاملات تمت بالفعل خارج مصر، مع تطبيق الإجراءات المنصوص عليها إذا لم يقدم العميل المستندات الداعمة.
هدف القرار| مرونة أكبر... وانضباط أشد
مصدر مصرفي أوضح أن الهدف من القرار هو تحقيق توازن بين تيسير الخدمات للمسافرين الفعليين، والحفاظ على انضباط السوق المالي. فالرقابة لا تزال قائمة، لكن من دون التعقيدات التي كان يواجهها بعض العملاء، خاصة في الحالات التي يصعب فيها الحصول على المستندات المطلوبة في الوقت المحدد.
كما يأتي هذا التعديل في إطار سياسة شاملة للبنك المركزي لمتابعة حركة الأموال إلكترونيًا، وتقليل فرص إساءة الاستخدام أو تهريب العملة الأجنبية، وهو ما يساهم في حماية الاحتياطي النقدي للدولة.
البنك التجاري الدولي يخفض هامش الصرف على البطاقات
على الجانب الآخر، أعلن البنك التجاري الدولي (CIB) عن خفض الهامش على أسعار صرف العملات الأجنبية على البطاقات الائتمانية إلى 3% فقط، بدءًا من 13 أغسطس 2025، وهي خطوة اعتبرها محللون "رسالة إيجابية للعملاء" لتشجيعهم على التعامل عبر القنوات الرسمية بدلًا من السوق الموازية.
كما كشف البنك عن تفاصيل الاستثمار في صندوق أسواق النقد "أصول" للأفراد، الذي يتيح شراء وبيع الوثائق بسهولة ومرونة، سواء عبر الخدمات المصرفية الإلكترونية أو من خلال الفروع، مع ميزة السيولة اليومية والإعفاء الضريبي الكامل.
ما هو صندوق "أصول" ولماذا يلقى اهتمامًا؟
صندوق "أصول" يعد أحد منتجات الاستثمار منخفضة المخاطر، ويتميز بالعائد التراكمي اليومي والاستثمار في أدوات نقدية قصيرة الأجل. أهم ما يميزه:
سيولة يومية: إمكانية شراء أو استرداد الوثائق حتى الساعة 1 ظهرًا.
إعفاء ضريبي كامل: لكل العملاء سواء أفراد أو شركات.
عائد تراكمي مستقر: يناسب الراغبين في استثمار آمن ومرن.
هذه المزايا جعلت الصندوق خيارًا مفضلًا لدى الكثيرين في ظل تقلبات السوق، خاصة مع توفيره عبر قنوات مصرفية رقمية متاحة على مدار الساعة.
البنك الأهلي يضرب السوق السوداء في مقتل
في تحرك آخر لا يقل أهمية، أعلن البنك الأهلي المصري عن توفير احتياجات عملائه من النقد الأجنبي بغرض السفر، في حدود المبالغ المصرح بحملها قانونًا، ومن خلال المنافذ الرسمية كالمطارات والموانئ المصرية.
هذه الخطوة تهدف مباشرة إلى سد واحدة من أهم ثغرات السوق السوداء، التي كانت تزدهر على حساب طلب المسافرين على العملة الصعبة. وبهذا، يتم توجيه النقد الأجنبي نحو الاستخدامات المشروعة، بدلًا من المضاربات أو التداولات غير القانونية.
قرارات ثورية لضبط السوق وإغلاق منافذ السوق السوداء
وصف الدكتور عبد الهادي مقبل، رئيس قسم الاقتصاد بكلية حقوق جامعة طنطا، أن القرارات الأخيرة التي اتخذتها البنوك المصرية بأنها "خطوة جريئة وثورية" تهدف إلى إعادة الانضباط لسوق النقد الأجنبي، وضبط حركة الأموال عبر الحدود بما يتماشى مع أولويات الدولة في المرحلة الراهنة.
ضبط سوق العملة وتقليل المضاربات
أكد مقبل أن إعلان البنك الأهلي المصري توفير احتياجات العملاء من النقد الأجنبي بغرض السفر، ضمن الحدود المسموح بها قانونيًا، يعكس رغبة حقيقية في إغلاق منافذ السوق السوداء التي كانت تستغل طلب المسافرين على العملة الصعبة. مشيرًا إلى أن هذه الخطوة تسهم في توجيه الموارد النقدية نحو الاستخدامات الفعلية والضرورية، بدلًا من المضاربات أو التداولات غير المشروعة.
إصلاح منظومة الدفع الخارجي
وحول تعديل البنك المركزي المصري للقواعد المنظمة لاستخدام البطاقات الائتمانية خارج البلاد، أوضح مقبل أن هذه الخطوة تأتي في إطار سياسة أكثر صرامة لمتابعة حركة الأموال إلكترونيًا، بما يقلل من فرص إساءة الاستخدام أو تهريب النقد الأجنبي، ويحافظ على الاحتياطي النقدي للدولة. كما اعتبر أن هذه القرارات تساعد في سد الثغرات التي كانت تسمح بخروج مبالغ كبيرة من العملة الأجنبية دون مبررات اقتصادية حقيقية.
تحفيز المعاملات البنكية الرسمية
أما قرار البنك التجاري الدولي بخفض هامش أسعار صرف العملات الأجنبية على البطاقات الائتمانية إلى 3%، فقد وصفه مقبل بأنه رسالة إيجابية للعملاء وتشجيع على استخدام القنوات البنكية الرسمية بدلًا من السوق الموازي. مشيرًا إلى أن هذا التخفيض يخلق بيئة أكثر تنافسية بين البنوك ويعود بالنفع على المستهلكين.
تأثيرات متوقعة على المدى القريب
اختتم مقبل حديثه بالتأكيد على أن هذه القرارات، إذا تم تطبيقها بصرامة مع استمرار الرقابة، ستؤدي إلى استقرار نسبي في سوق الصرف، وتخفيف الضغوط على الجنيه المصري، وزيادة الثقة في الجهاز المصرفي. لكنه شدد في الوقت نفسه على ضرورة أن تتزامن هذه الإجراءات مع سياسات اقتصادية أوسع لتعزيز الإنتاج والتصدير وزيادة موارد النقد الأجنبي.
بداية مرحلة جديدة
القرارات الأخيرة للبنك المركزي والبنوك المصرية ليست مجرد تعديلات تقنية، بل هي جزء من رؤية أوسع لإصلاح المنظومة النقدية وحماية الاقتصاد من مخاطر المضاربات والفوضى المالية.
وبينما ينتظر السوق نتائج هذه الإجراءات على المدى القريب، يبقى الرهان الأكبر على قدرة الدولة على الجمع بين الانضباط المالي والتحفيز الاقتصادي، بما يخلق بيئة مستقرة وجاذبة للاستثمار.
في النهاية، قد تكون هذه الخطوات بداية لمرحلة جديدة، تتراجع فيها السوق السوداء، ويعود للجنيه المصري قوته، شرط أن تسير جنبًا إلى جنب مع خطط جادة لزيادة الإنتاج ودعم الصادرات.