قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

د.محمد عسكر يكتب: في بيتنا هاتف

دكتور /محمد عسكر - استشارى نظم المعلومات والأمن السيبرانى
دكتور /محمد عسكر - استشارى نظم المعلومات والأمن السيبرانى

في بيتنا هاتف، يا سادة، ويا للعجب! فهو ليس هاتفاً عادياً، بل هو كائنٌ حيٌّ، يتنفس، يتكلم، بل ويحكم البيت بقوانينه الخاصة.

إنه ليس مجرد جهازٍ معدنيٍّ يرنّ عندما يشاء، بل إنه هو سيد الموقف، ديكتاتور العصر الحديث، ومصدر كل الهموم والنعم في آنٍ واحد. دعوني أروي لكم حكاية هذا الهاتف الذي قلب حياتنا رأساً على عقب.

في البداية، كان الهاتف ضيفاً خجولاً، اشتريناه ببضعة آلاف من الجنيهات، ظننا أنه سيخدمُنا، لكنه سرعان ما أثبت أنه السيد ونحن العبيد.

أمي، تلك السيدة التي كانت تتحكم بمطبخها كما يتحكم قائدٌ عسكريٌّ بجيشه، أصبحت أسيرة لوصفات الطبخ على "اليوتيوب". كل يوم، نراها جالسة أمام الشاشة، تتأمل طبقاً جديداً للكيك، وكأنها تكتشف سراً من أسرار الحياة. سيدة المطبخ التي كانت تُعدّ لنا أشهى المأكولات من ذاكرتها، أصبحت اليوم رهينة لتطبيقات الطبخ. كل صباح، تجلس أمام الهاتف، تتصفح "التيك توك" بحثاً عن وصفة جديدة للمكرونة بالبشاميل، ثم ترفع رأسها لتقول "الوصفة دي بتقول لازم نضيف القرنفل!" تقولها بجديةٍ وكأنها تقرأ وصية لنيوتن أو تزيح الستار عن قانون فيزيائي جديد لم يكتشفه بعد أينشتاين. 

لكن الهاتف الغدّار، ذلك المخادع الماكر، لا يتركها تكمل ويقرر فجأة أن يعرض إعلاناً عن شامبو ضد القشرة في منتصف الفيديو، فتحترق المكرونة، ونعود كالعادة إلى "ساندويتشات الجبنة" التي باتت طبقنا اليومى.

أما أبي ذلك الرجل الهادئ الذي كان يبدأ صباحه كل يوم بالجريدة وكوب الشاي ، فقد تخلى عن ورقه المفضل لصالح الهاتف، ووجد فيه خلاصه من صخب وضجيح هذا العالم. كان يظن أن "واتساب" مجرد وسيلة للتواصل مع أصدقائه القدامى، لكنه الآن أصبح عضواً فاعلاً في ثلاثين مجموعة، منها "أصدقاء الحارة" و"عشاق الشاي بالنعناع" و"محبي الأخبار المزيفة". يقضي ساعات يناقش فيها أموراً لا تهم أحداً، مثل "هل الطماطم فاكهة أم خضار؟"، ويصرّ على أن رأيه هو الصواب، لأن "واحد في الجروب قال كده". الهاتف، بالنسبة له، ليس مجرد جهاز، بل هو بوابةٌ للحكمة الكونية.

أما عن أخي الصغير، فهو حالةٌ تستحق الدراسة. الهاتف بالنسبة له ليس مجرد جهاز، بل هو شريك حياته، عدوه اللدود، وملاذه الوحيد. يقضي يومه يلعب "بابجي"، يصرخ في سماعة الهاتف وكأنه يقود جيشاً في معركةٍ مصيرية. "يا أحمد، اقفل اللعبة دى وتعالى كُل!" هكذا تصرخ أمي، فيرد بنبرةٍ درامية: "مش هينفع، أنا في الزون، لو خرجت هخسر وهيقتلوني!"، وكأن حياته الحقيقية معتمدةٌ على البقاء في اللعبة ويبدو أن خسارته ستؤدي إلى انهيار الحضارة الإنسانية. وحين يخسر بالفعل، يتحول إلى فيلسوفٍ صغير، يلقي باللوم على "النت الضعيف" و"اللاج" و"الجهاز الرخيص". 

في إحدى المرات، حاولتُ أن أشرح له أن الإنترنت في البيت سريع، لكنه نظر إليّ نظرةً مليئةٌ بالشفقة وقال: "إنتَ ما بتفهمش، الموبايل هو اللي بطيء!".

وأما أنا، فلا أنكر أنني وقعت في فخ الهاتف أيضاً. بدأتُ بمتابعة الأخبار، ثم وجدتُ نفسي أتابع حساباتٍ لقططٍ تؤدي حركاتٍ بهلوانية وأغرق في بحرٍ من مقاطع عن كلابٍ ترقص ، ومن هناك إلى فيديوهات "كيف تصنع قنبلة من علبة كولا" ثم انفتح الباب على مصراعيه لفيديوهات "افعلها بنفسك" التي جعلتني أشعر أنني أستطيع بناء صاروخ فضائي من أعواد الكبريت وأقنعتني أنني قادر على بناء محطة نووية من مشابك الغسيل.

يبدو أن الهاتف يعرف كيف يجذبك ويغويك، ثم يحبسك في دوامةٍ لا نهائية من المقاطع والصور والتعليقات. الأمر يبدأ بمقطعٍ قصيرٍ عن كيفية تنظيف المطبخ، ثم يأخذك إلى فيديو عن "أغرب 10 أشياء وجدها الناس في المحيط". قبل أن أدرك ذلك، أكون قد أمضيتُ ثلاث ساعاتٍ أشاهد قرداً يتعلم التزلج على الماء.

حاولتُ أن أضع حدودً لاستخدامي، لكن من يستطيع مقاومة إشعارٍ جديدٍ يقول "لقد تم الإعجاب بصورتك"؟ إنه إغراءٌ لا يُقاوم.

في النهاية يا سادة ، الهاتف في بيتنا ليس مجرد جهاز. إنه عضوٌ في العائلة، يتدخل في قراراتنا، يشغل أوقاتنا، ويسرق أحلامنا. قد يكون نعمةً، لكنه أحياناً يبدو كلعنةٍ ناعمة، مغلفةً بشاشةٍ لامعةٍ وإشعاراتٍ ملونة. فهل نحن من نستخدم الهاتف، أم أن الهاتف هو من يستخدمُنا؟ هذا سؤالٌ فلسفيٌّ لا أملك إجابته، لكن ما أعرفه أنني سأذهب الآن لأتحقق من إشعارٍ جديدٍ وصلني للتو. وداعاً!