قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
عاجل
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

د. آية الهنداوي تكتب.. الإستخبارات الإسرائيلية وأسطورة الجيش الذي لا يُقهر

د. آية الهنداوي
د. آية الهنداوي

منذ عقود برزت إسرائيل في المشهد الدولي كدولة صغيرة من حيث المساحة والسكان لكن الصورة التي نجحت في ترسيخها عالميًا عن نفسها كقوة عسكرية وإستخباراتية إستثنائية لا تعكس الواقع بقدر ما تعكس إستراتيجيات ممنهجة للتضليل الإعلامي والسياسي. هذه الصورة لم تتشكل من فراغ، بل هي نتاج تخطيط طويل الأمد قائم على توظيف الجيش و الأجهزة الإستخباراتية والإعلام كأدوات متكاملة لصناعة هالة وهمية من القوة مما أتاح لإسرائيل أن تفرض مكانتها في قلب الصراعات الإقليمية، بينما تخفي هشاشة القدرات الحقيقية وفجواتها في إدارة الصراعات المعقدة.

ويشكل الجيش الإسرائيلي المعروف باسم "جيش الدفاع الإسرائيلي"الركيزة الأساسية في صناعة هذه الأسطورة. فمنذ تأسيس الدولة عام 1948 اعتمدت إسرائيل على التجنيد الإلزامي للذكور والإناث وهو ما سمح لها ببناء مجتمع شبه عسكري يتم تسويق الإنتماء الوطني فيه كقوة مطلقة في حين يختفي الواقع الذي يكشف عن محدودية الموارد البشرية أمام التحديات العسكرية المستمرة.

بالإضافة إلي أن هناك وحدات النخبة مثل "ساييرت ماتيكل" و"شايطت 13" و"راماتكال" تمثل ذروة الإحتراف، لكن التركيز الإعلامي على هذه الوحدات يخفي حقيقة أن عمليات الجيش التقليدية غالبًا ما تعاني من ضعف التخطيط أمام الجماعات المسلحة غير النظامية كما ظهر في حروب لبنان وقطاع غزة. فالحروب التي خاضتها إسرائيل بدءًا من حرب 1948 مرورًا بحرب الأيام الستة 1967، وحرب يوم الغفران 1973 وصولًا إلى حروب لبنان وقطاع غزة تكشف فجوة واضحة بين الصورة الإعلامية للقوة وبين القدرة الفعلية على مواجهة التحديات المستمرة والمتنوعة.

وأشير إلي أن الأجهزة الإستخباراتية الإسرائيلية وعلى رأسها الموساد والشاباك لعبت دورًا مركزيًا في صناعة الأسطورة. جهاز الموساد هو المسؤول عن الإستخبارات الخارجية ويُروّج له على أنه قوة خارقة تدير عمليات دقيقة ومعقدة، بينما الواقع يكشف عن عمليات محدودة التأثير تهدف غالبًا لإعطاء الإنطباع بالسيطرة المطلقة على الأحداث العالمية. وعمليات الموساد الشهيرة مثل مطاردة أعضاء جماعة "أيلول الأسود" بعد مذبحة ميونيخ 1972 أو استهداف العلماء النوويين استخدمت كوسائل إعلامية لتضخيم قدرات الدولة، بينما تخفي السياسات الداخلية القمعية وملاحقة المعارضين السياسيين والفلسطينيين.

أما جهاز الشاباك فهو المكلف بالأمن الداخلي و يقدّم صورة دولة منيعة على التهديدات الداخلية، لكنه في الواقع أداة لقمع المعارضة ومراقبة المجتمع الفلسطيني، وخلق مناخ من الخوف داخل المجتمع، مما يعكس استخدام الإستخبارات كأداة سياسية أكثر منها أداة حماية حقيقية.

وقد لعب الإعلام الإسرائيلي المدعوم دوليًا  الدور الأكبر في تضخيم صورة "القوة العسكرية والإستخباراتية" وذلك من خلال التقارير الصحفية والوثائقيات، والأفلام العسكرية التي تركز على النجاحات المعلنة، بينما تتجاهل الإنتهاكات والإخفاقات مما يسهم في خلق وعي عالمي خاطئ بأن إسرائيل دولة منيعة على الهزيمة. هذه السيطرة الإعلامية لا تقتصر على الداخل الإسرائيلي، بل تمتد لتوجيه الرأي العام الدولي وتأثير السياسات الإستراتيجية للدول الأخرى تجاه الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.

والنتيجة هي أن إسرائيل نجحت في استغلال الإعلام كغطاء لصناعة أسطورة القوة، بينما تستمر في ممارسة سياسات الإحتلال والعدوان باسم "الجيش القوي" دون أن يترتب على هذه الأوهام مساءلة جادة على المستوى الدولي.

رغم الصورة المثالية تكشف الصراعات الحديثة مع غزة ولبنان عن أوجه ضعف واضحة في قدرة الجيش الإسرائيلي على مواجهة التحديات المعقدة وغير المتكافئة. كالحروب غير التقليدية و العمليات المضادة للمقاومة بالإضافة إلى الحروب الإلكترونية التي تُظهر أن الأسطورة الإعلامية تتجاوز القدرة الفعلية مما يعكس الإعتماد على التضليل الإعلامي والسيطرة على الرواية كأدوات استراتيجية لتثبيت النفوذ.

أسطورة الجيش القوي لم تؤثر فقط على الرأي العام، بل شكلت سياسات المنطقة بأكملها. والقوى الإقليمية والدولية تأخذ في اعتبارها "القوة المعلنة" لإسرائيل عند التخطيط للتحالفات أو الحروب مما يسمح للدولة العبرية بممارسة نفوذ غير متناسب مع حجمها الفعلي. هذا التوازن بين الوهم الإعلامي والواقع العسكري يعزز مكانتها الإقليمية، بينما تستمر النقاشات حول الفجوة بين القوة المعلن عنها والقدرة الحقيقية.

وأوضح من خلال هذا السياق أنه لا يقتصر تأثير الأسطورة العسكرية الإسرائيلية على المستوى العسكري والسياسي فحسب، بل يمتد إلى الجانب النفسي في وعي الخصوم والجماهير. إذ تعمد إسرائيل إلى ترسيخ مفهوم الردع النفسي عبر تضخيم نجاحات محدودة وإخفاء الإخفاقات. فالهالة التي تُحيط بقدرات سلاح الجو الإسرائيلي، أو بعمليات الإغتيال الدقيقة التي ينفذها الموساد تعمل كأداة لإشاعة الخوف المسبق في نفوس الخصوم وإقناعهم بأن المواجهة محكومة بالفشل قبل أن تبدأ.
هذه الإستراتيجية تجعل من "القوة المتخيلة" وسيلة لإدارة الصراع لا تقل أهمية عن القوة العسكرية الفعلية على الأرض.

وإلى جانب ذلك، لعبت الأسطورة العسكرية دورًا محوريًا في بناء شبكة العلاقات الدولية لإسرائيل. فالدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، وجدت في "الجيش الذي لا يُقهر" شريكًا موثوقًا في منطقة مضطربة. هذا التصور ساهم في تدفق المساعدات العسكرية والمالية الهائلة لإسرائيل وفي الوقت نفسه عزز اعتمادها على الدعم الخارجي لإستمرار تفوقها النوعي. غير أن الواقع يكشف أن هذا التفوق ما كان ليتحقق لولا الدعم الغربي المباشر سواء عبر التمويل أو عبر تزويد الجيش الإسرائيلي بأحدث التقنيات العسكرية التي لا يمكن مقارنتها بالموارد الذاتية المحدودة.

إن بناء صورة "الجيش الذي لا يُقهر" لم يكن وليد اللحظة، بل هو نتاج تراكمات تاريخية بدأت منذ حرب 1948 حيث صُوِّرت إقامة الدولة كمعجزة عسكرية خارقة رغم أن ميزان القوى حينها كان منحازًا لصالح العصابات الصهيونية المدعومة دوليا.
ومع حرب 1967 رسخت إسرائيل هذه الأسطورة عبر تصوير النصر السريع على أنه برهان نهائي على تفوقها العسكري، بينما تم تجاهل العوامل الإستراتيجية والسياسية التي مهدت لذلك. ومع كل مواجهة جديدة كانت إسرائيل تحرص على صياغة رواية إعلامية تغلب فيها "الإنجاز" على "الإخفاق" فتستمر الأسطورة في النمو رغم التصدعات الواضحة في بنيتها.

ولا يمكن إغفال الدور الذي لعبته كبريات وسائل الإعلام الغربية في دعم صورة الجيش الإسرائيلي. فالتغطيات الإخبارية العالمية كثيرًا ما تُبرز نجاحات عملياتية فردية أو تركز على "بطولات" وحدات النخبة، بينما تتجاهل الخسائر البشرية الكبيرة أو الفشل الإستخباراتي في منع هجمات نوعية من المقاومة الفلسطينية أو اللبنانية. هذا الإنحياز الإعلامي يعكس تحالفًا أيديولوجيًا وسياسيًا أكثر من كونه تقييمًا موضوعيًا، مما يجعل الإعلام نفسه جزءًا من البنية التي تبني وتعيد إنتاج أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر".

وجدير بالذكر أن هذه الأسطورة لم تُوجَّه فقط إلى الخارج، بل خُصص جزء كبير منها للداخل الإسرائيلي. فالمجتمع الإسرائيلي الذي يعيش في حالة استنفار دائم يحتاج إلى جرعة مستمرة من الخطاب التعبوي الذي يعزز الثقة بالجيش ويُغطي على التوترات الداخلية والإنقسامات السياسية والديموجرافية. وهنا يتحول الجيش إلى مؤسسة هوياتية أكثر من كونه مؤسسة عسكرية فقط، إذ يُقدَّم كرمز للوحدة الوطنية ودرع الوجود حتى وإن كانت الوقائع الميدانية تشير إلى إخفاقات متكررة.

لكن، ومع تصاعد الحروب غير التقليدية وتزايد الهجمات السيبرانية، وتنامي قوة الفاعلين غير الدوليين، تبدو أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر" مهددة بالتآكل. فالمعارك الأخيرة في غزة ولبنان كشفت هشاشة الإعتماد المفرط على التكنولوجيا العسكرية دون وجود حلول إستراتيجية للصراعات طويلة الأمد. كما أن تعاظم الخسائر في صفوف الجنود والمستوطنين يضع المؤسسة العسكرية أمام تحديات نفسية ومجتمعية قد تُضعف من تماسكها على المدى البعيد. وبالتالي فإن الأسطورة التي شكلت ركيزة قوة إسرائيل قد تتحول مع الزمن إلى عبء إستراتيجي يكشف هشاشتها بدلًا من أن يحجبها.

وختاماً ، أوضح أن أسطورة "الجيش القوي" الإسرائيلي ليست انعكاسًا للقوة الحقيقية، بل هي نتاج إستراتيجيات متكاملة من تضخيم القدرات العسكرية والإستخباراتية والسيطرة الإعلامية، وإخفاء الهزائم والإنتهاكات. هذه الصورة عززت مكانة إسرائيل الدولية، لكنها تكشف في الوقت نفسه هشاشتها، وتعكس استخدام القوة المعلنة كأداة سياسية لتضليل الرأي العام الدولي وفرض الهيمنة الإقليمية. فهذه الظاهرة تكشف عن التضليل الإستراتيجي الإسرائيلي وتوضح الفجوة الكبيرة بين القوة المعلن عنها والقدرة الفعلية مما يجعلها درسًا واضحًا في إستغلال الأساطير العسكرية والإستخباراتية لتحقيق النفوذ السياسي.

وسيكون لنا عودة تزلزل ما تبقى من أساطيرهم المزعومة.