قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

عبد السلام فاروق يكتب: انتحار لغوي!

عبد السلام فاروق
عبد السلام فاروق

اللغة كائن حي، هذا ما تعلمناه في بداياتنا الأولى مع حروف الهجاء، لكننا لم نتعلم قط أن الكائن الحي يمكن أن يقتل بالتقريع اليومي، بالإهمال المتعمد، بالاحتفال الشكلي الذي يشبه إقامة الوليمة أمام جائع مقيد لا يستطيع مد يده إلى الطعام.
تمر الأيام وتأتي مناسبات اللغة العربية كضيف ثقيل نحسب أيام زيارته، نزين له الجدران بالشعارات، نلقي الخطب كالورود الذابلة على منصة الاحتفال، ثم نودعه بفراغ يشبه الفراغ الذي كان فيه قبل مجيئه. وبين هذا وذاك، نعيش أيامنا العادية: أيام القتل البطيء.
في المدارس:  تتحول اللغة إلى عقاب
دخلت مدرسة ابني ذات يوم، فسمعت المعلمة تصرخ في تلميذ: لماذا لا تحسن الإعراب؟ وكانت نبرتها تشبه نبرة المحقق الذي يواجه مجرماً. تساءلت في صمت: متى تحول الإعراب من أداة لفهم جمال التركيب إلى سلاح للتقريع والتحقير؟
الطفل الذي يربط بين اللغة العربية والعقاب، كيف سينظر إليها عندما يكبر؟ سيرى فيها ذلك الكائن الغريب الذي عانى منه في طفولته، سيتعامل معها كزي رسمي يخلعه عند أول فرصة، كطقس إلزامي لا معنى له. وهكذا، نربي أجيالاً تخشى لغتها كما تخشى الامتحانات الصعبة.
وفي أحد البيوت، جلست أراقب طفلاً في الرابعة من عمره. تحدثت إليه والدته بلغة عربية فصحى جميلة، فابتسم ورد بمفردات إنجليزية فرحاً. سألتها: لماذا؟ أجابت: "أريد أن يكون طليقاً في الإنجليزية، فالعربية سيتعلمها في المدرسة".
هنا تكمن الكارثة: عندما تتحول اللغة الأم إلى مادة دراسية، وإلى لغة المدرسة فقط، وتتحول اللغات الأخرى إلى لغة البيت والحياة والعاطفة. فالطفل الذي يشعر أن والديه يتحدثان معه بلغة الحب بلغة أجنبية، بينما يحتفظان بالعربية للنصائح والتوبيخات، كيف سيرى هذه اللغة؟ سيرى فيها لغة الجدّ الجديّة، لغة الواجب الثقيل، وليس لغة القلب.
الهوية في بوتقة العولمة
تمشي في شوارع عواصمنا العربية فتسمع اللغات تتقاطع كأمواج متضاربة: إنجليزية وفرنسية وتركية، ولهجات محلية تبتعد عن الأصل شيئاً فشيئاً، وبين هذا وذاك تبحث عن العربية الفصحى فلا تكاد تجدها إلا في اللافتات الرسمية التي تخطئ أحياناً في الإملاء.
تحولت الفصحى إلى لغة النخبة في أفضل الأحوال، وإلى لغة النصوص الرسمية الجامدة في أسوئها. بينما يتحدث الناس بلغات هجينة تشبه تلك اللغات "الفرانكو" التي اخترعناها للدردشة الإلكترونية، والتي تخلط الحرف العربي بالكلمة الأجنبية، فتفقد الهوية من كلا الطرفين.
بين التكلف والسطحية
المفارقة المؤلمة أننا نملك أقدم لغة حية على الأرض، لغة قادرة على استيعاب أحدث المصطلحات العلمية والفلسفية، ومع ذلك نراها في إعلامنا بين صورتين: صورة متكلفة في بعض البرامج الثقافية التي تخاطب النخبة فقط، وصورة ساذجة في البرامج الأخرى التي تختزل اللغة في مجرد وسيلة اتصال بلا روح.
أين اللغة التي تجمع بين العمق والبساطة؟ أين اللغة التي يمكن أن تخاطب العقل والقلب معاً؟ لقد قسمناها إلى لغتين: لغة الثقافة العالية التي لا يفهمها العامة، ولغة العامة التي تخلو من أي عمق. وهكذا فقدنا اللغة الوسطى، لغة التواصل الحضاري الحقيقي.
اللغة وعي
الخطأ الأكبر في تعاملنا مع اللغة العربية هو اعتبارها مجرد أداة اتصال، بينما هي في الحقيقة أداة تفكير، نظام معرفي، رؤية للعالم. عندما تضعف اللغة، يضعف معها القدرة على التفكير النقدي، على التحليل الدقيق، على التعبير الدقيق عن المشاعر والأفكار.
اللغة العربية بما تملكه من ثراء مفرداتي، ودقة تعبيرية، وقدرة على الاشتقاق والتوليد، هي أداة مثالية للتفكير العلمي والفلسفي. لكننا استبدلناها بلغات أخرى في التعليم العالي والبحث العلمي، وكأننا نقول لأبنائنا: هذه اللغة صالحة للشعر والأدب فقط، أما العلم والحضارة فبلغات أخرى.
احتفال بلا توبة
نعود كل عام لنحتفل بيوم اللغة العربية، نلقي الخطب عن مجدها، عن تاريخها، عن قدراتها. لكننا لا نتوب عن جرائمنا اليومية ضدها. نرفع الشعارات ثم نعود إلى الفصل الدراسي لندرس العلوم والرياضيات بلغات أجنبية. نكتب المنشورات عن أهمية العربية ثم نرسل أبناءنا إلى مدارس أجنبية.
هذا النفاق الثقافي هو أخطر ما نواجهه. فلو كنا صادقين في حبنا للغتنا، لبدأنا بإصلاح تعليمها، بتطوير مناهجها، بجعلها لغة حياة وعلوم وتقنية، وليس فقط لغة تراث وأدب.
نحو خلاص ممكن
ليس المطلوب أن ننغلق على أنفسنا ونتعالى على اللغات الأخرى، فالتعدد اللغوي ثراء. لكن المطلوب أن تكون لغتنا الأم في القلب، الأساس المتين الذي نبني عليه معرفتنا بلغات العالم.
الخلاص يبدأ من الاعتراف بالمشكلة، ثم باتخاذ خطوات عملية: تعريب التعليم العلمي تدريجياً، إنتاج محتوى ثقافي وعلمي جذاب بالعربية، تطوير تعليم اللغة ليكون قائماً على الفهم والإبداع لا الحفظ والإعراب فقط، وإعادة ربط اللغة بالهوية دون انغلاق.
اللغة العربية كائن حي قوي ظلمناه وأهملناه. هي قادرة على الحياة إذا أردنا لها الحياة. لكنها تحتاج إلى أكثر من مجرد احتفال سنوي، تحتاج إلى إيمان حقيقي بقدراتها، وجهد عملي لإعادة اكتشافها في عصرنا.
اليوم، ونحن نحتفل بيومها، لنكن صادقين مع أنفسنا: إما أن نغير من تعاملنا معها، وإما أن نستبدل الاحتفال بالنعي. فاللغة التي نقتلها يومياً لا تحييها كلمات احتفال سنوي.