كنتُ أظن أنّ حزن الأم يبدأ ساعة الفقد، ثم اكتشفت أنه يبدأ قبل ذلك بكثير...أتذكركِ يا حبيبتي منذ أول مرة رأيتكِ تركضين في البهو وتسبقين إخوتكِ إلى حضني، ومنذ أول نداء "ماما" قلتِها وأنتِ تضحكين.
اليوم أكتب إليكِ لا لأبقيكِ في الذاكرة، بل لأبقي نفسي معكِ قليلًا... لأنني إن توقفت عن الكتابة، ستغيبين مرتين... أكتب بدموعٍ لم تجف منذ رحيلكِ. وصرت أبكي حتى وأنا أضحك، كأن الضحك من دونكِ ناقص.
جئتِ إلى الدنيا قبل موعدكِ بشهرين، كأنكِ لم تطيقي الانتظار. ما زلتُ أذكر تلك الليلة جيدًا، كنتُ أصرخ من الألم وأنتِ تحدقين فيّ بعينيكِ الواسعتين وكأنكِ تقولين: "لا تقلقي يا أمي، أنا هنا." لم تشبهي أي مولود رأيته من قبل، لم تبكي كثيرًا، يقظتكِ لم تفارقكِ حتى وأنتِ رضيعة، ترفضين النوم وتضحكين كلما اقترب وجهي منكِ.
كبرتِ سريعًا، أسرع مما تخيلت. كنتِ أول من يستيقظ صباحًا، تجهزين حقيبتكِ قبل الجميع وتركضين نحو الباب قبل أن يرن جرس الحافلة. كنتُ أراكِ من الشرفة تعبرين الطريق في المطر، وشعركِ يطير خلفكِ مثل راية صغيرة. أبتسم وأدعو الله أن يحفظكِ.
في المدرسة، كنتِ ترفعين يدكِ دائمًا حين يطلب المدرس متطوعًا. تحبين المشاركة وتجيبين بثقة حتى اشتهرتِ بين معلميكِ بـ"بنت الأفكار السريعة". ما زلت أذكر يوم فزتِ بمسابقة القراءة على مستوى المدرسة، تحملين الكأس الصغيرة وتصرّين أن تضعيه بجوار سريركِ. قلتِ لي: "هذا ليس لي وحدي يا أمي، هذا لكِ أنتِ."
ومع إخوتكِ، كنتِ القلب الذي يجمعهم. تهدئين الشجار، وتبادرين بالاعتذار حتى لو لم تكوني المخطئة. أذكر مرة تشاجرتم على قطعة حلوى، فقسمتِها بالتساوي وتركتِ نصيبكِ لهم. قلتِ لي يومها وأنتِ تضحكين: "المهم ألا يغضب أحد."
دخلتِ الجامعة ولم تتغير روحكِ. من أوائل دفعتكِ، يصفكِ أساتذتكِ بأنكِ "نجمة القاعة". تحضرين المحاضرات مبكرًا، تجلسين في الصف الأول، تدونين كل شيء وتساعدين زملاءكِ.
في ليلة امتحان، كنتُ أفتح باب غرفتكِ فأجدكِ محاطة بالكتب والأوراق، تكتبين وتقرئين وكأنكِ تسابقين العالم. عيناكِ تلمعان من التركيز. ما إن أهمس: "العشاء جاهز يا نادين"، حتى ترفعي رأسكِ وتبتسمين تلك الابتسامة التي تذيب تعبي كله. تضعين القلم جانبًا ثم تقولين: "حاضر يا أمي، لا أريد أن يبرد الطعام."
أتذكركِ وأنتِ ابنة الخامسة، وقفنا معًا على المعبر. شعرتُ بكفكِ الصغير يشد يدي بقوة ثم همستِ بخوف: "أمسكيني جيدًا يا أمي، أخشى أن يأخذني هذا الطير من يدكِ ظنًا أنني سمكة." ضحكتُ يومها حتى دمعت عيناي، أما اليوم فكلما تذكرت كلماتكِ أبكي حتى يجفّ كل شيء بداخلي.
آخر مرة رأيتكِ، تمسكين حقيبة صغيرة وكتابًا. قلتِ لي: "سأسافر الليلة يا أمي، عندي مقابلة مهمة غدًا." رجوتكِ أن تنتظري للصباح لكنكِ ابتسمتِ وقلتِ: "لا وقت لدي، أريد أن أصل مبكرًا." قبّلتُ جبينكِ وأنتِ تخرجين من الباب، ولم أكن أعلم أن تلك القبلة ستكون الوداع الأخير.
في الفجر، جاء الهاتف. قلب الأم يعرف قبل أن يسمع، وعرفت قبل أن ينطقوا باسمكِ. قالوا إن الحافلة انقلبت على الطريق، ومنذ ذلك اليوم أظلمت السماء في عيني.
لم تجف دموعي أبدًا. حتى وأنا أضحك مع الآخرين، أبكي في داخلي. البيت صار مقبرة للذكريات، غرفتكِ كما تركتها، وخطواتكِ ما زلت أسمعها في الممر كل ليلة.
أحيانًا أستيقظ ليلاً فأشعر أنني أمسح دموعكِ أنتِ، لا دموعي. كأنكِ واقفة عند رأسي، تربّتين على قلبي وتقولين: "اصبري يا أمي، أنا بخير." عندها أبكي حتى الفجر، وأستودعكِ من جديد، ثم أعود لأنام.
الحياة بعد موت الابن لا تعود كما كانت. تصير الدنيا زاهدة بنفسها، باهتة، كأنها تعتذر لي كل يوم. ومع ذلك، أكتب حتى لا يضيع أثركِ. أكتب حتى لا يعتاد وجهي الجفاف.
لقد عشتِ يا نادين عمرين في عمر واحد، ثم رحلتِ مسرعة كما جئتِ مسرعة، وتركتِني أتعلم كيف أضحك وأنا أبكي في الوقت نفسه.
تركتِني أتعلم كل يوم أن الأم يمكن أن تموت وهي حية، وأن الحب الذي يسبقكِ لا ينتهي برحيل صاحبه، بل يترككِ نصفًا يبحث عن نصفه الآخر إلى أن يلتقيه. سبقتِ الجميع يا عزيزتي، و سبقتِني أنا أيضا ، وتركتِ لي الدنيا كواجب منزلي طويل عليّ أن أحله وحدي.