تشهد القضية الفلسطينية لحظة مفصلية في تاريخها الدبلوماسي، مع تزايد الاعترافات الدولية بدولة فلسطين ودعوات متصاعدة لمنحها عضوية كاملة في الأمم المتحدة. ففي كلمة حملت دلالات سياسية قوية، دعا رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز إلى ضرورة إتمام هذه الخطوة باعتبارها "استحقاقاً عادلاً" للشعب الفلسطيني، وذلك خلال المؤتمر الدولي رفيع المستوى بشأن التسوية السلمية للقضية الفلسطينية، الذي انعقد في نيويورك برئاسة فرنسا والمملكة العربية السعودية. هذه التطورات تأتي في سياق تحولات دولية متسارعة تضع إسرائيل أمام واقع جديد وتفتح أمام الفلسطينيين آفاقاً غير مسبوقة.
دعوة إسبانية صريحة لعضوية كاملة
سانشيز، الذي كان من أوائل القادة الأوروبيين الذين اعترفوا بدولة فلسطين في مايو 2024، شدد على أن الاعتراف وحده لا يكفي، بل يجب أن يُستكمل بخطوة عملية تتمثل في منح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة. وأشار إلى أن هذه المبادرة تحظى بدعم 156 دولة من أصل 193، في حين تبقى الولايات المتحدة أبرز المعارضين. وأضاف قائلاً: "هذا المؤتمر يمثل بداية الطريق وليس نهايته، وما يجب علينا فعله هو إكمال هذه العملية بأسرع وقت ممكن لتحقيق المساواة الحقيقية بين الدول".
ماكرون: اعتراف لا ينتقص من حقوق إسرائيل
الاعتراف الفرنسي الذي أعلنه الرئيس إيمانويل ماكرون رسمياً أمام الدورة الـ80 للجمعية العامة للأمم المتحدة كان نقطة تحول بارزة. فقد أكد ماكرون أن اعتراف بلاده بحقوق الشعب الفلسطيني لا ينتقص من حقوق الإسرائيليين، بل يعزز فرص تحقيق السلام العادل. هذا الموقف الفرنسي ترافق مع إعلان دول أوروبية صغيرة مثل موناكو ومالطا ولوكسمبورغ دعمها الواضح لفلسطين، ما يعكس اتجاهاً متصاعداً داخل أوروبا لتبني موقف أكثر توازناً.
لغة حازمة تجاه إسرائيل
الصحافة الإسبانية لفتت إلى أن سانشيز استخدم لغة غير مسبوقة في انتقاد إسرائيل، إذ وصف ما يجري في غزة بأنه "إبادة جماعية للشعب الفلسطيني". وأضاف: "باسم القانون الدولي والكرامة الإنسانية، يجب أن يتوقف هذا القتل الجماعي فوراً، فالقصف والمجاعة يفتكان بالنساء والأطفال". هذه التصريحات تعكس تصاعد حدة الانتقادات الأوروبية لإسرائيل، لا سيما بعد الكلفة الإنسانية الباهظة للحرب في غزة، وهو ما تجلى في مواقف أكثر من 40 دولة شاركت في قمة حل الدولتين برئاسة فرنسية سعودية.
وبعد أعلن غالبية الدول الأوروب، إلى جانب بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال، اعترافها الرسمي بدولة فلسطين وهذه التطورات وصفها اللواء محمد حمد، الخبير الاستراتيجي، بأنها "تحول تاريخي" يكسر عقوداً من الانحياز الغربي شبه المطلق لإسرائيل، ويفتح الباب أمام واقع سياسي ودبلوماسي جديد.
الاعتراف.. تغيير في ميزان الشرعية الدولية
يشير الخبير إلى أن أهمية هذه الاعترافات لا تكمن فقط في العدد، فاليوم أكثر من 151 دولة من أصل 193 عضواً في الأمم المتحدة تعترف بفلسطين، وإنما في هوية الدول التي انضمت للقائمة مؤخراً. فحين تتخذ قوى كبرى مثل بريطانيا وكندا وأستراليا وفرنسا هذه الخطوة، يصبح المشهد مختلفاً؛ إذ إنها ليست دولاً عابرة أو هامشية، بل قوى ذات ثقل اقتصادي وسياسي في النظام الدولي. وهذا التحول بحسب حمد يعني أن ميزان الشرعية الدولية بدأ يتحرك لصالح القضية الفلسطينية.
البعد الرمزي والسياسي
اللواء حمد يوضح أن الاعتراف لا يعني بالضرورة قيام الدولة الفلسطينية على الأرض بشكل فوري، لكنه يحمل وزناً رمزياً وسياسياً بالغ الأهمية. فهو يضع الفلسطينيين على قدم المساواة مع إسرائيل في نظر القانون الدولي، ويجعل تل أبيب عاجزة عن الادعاء بأنها الطرف الشرعي الوحيد. الاعترافات الأخيرة كما يؤكد منحت فلسطين "مكانة قانونية وسياسية شبه مكتملة" تكسر محاولات عزلها في المشهد العالمي.
تداعيات على الساحة الدولية
انعكاسات هذه الموجة من الاعترافات ستظهر سريعاً في المحافل الدولية، وفق رؤية الخبير. فإسرائيل قد تجد نفسها أمام تحديات متزايدة في تمرير قراراتها أو تعطيل تحركات داعمة للفلسطينيين داخل المؤسسات الدولية. كما أن الضغط الشعبي في الغرب، خاصة بعد حرب غزة وما خلفته من صدمة إنسانية، بدأ يفرض نفسه على الحكومات الأوروبية، ويدفعها إلى إعادة النظر في سياساتها التقليدية المنحازة.
تغيير قواعد اللعبة
يرى حمد أن الخطوة ليست "رمزية" فحسب، بل هي بداية لتغيير قواعد اللعبة الدولية. فمع الاعتراف الواسع بفلسطين، يتحول الاحتلال الإسرائيلي تدريجياً من كونه "نزاعاً سياسياً" إلى قضية انتهاك صارخ للقانون الدولي. وهذا التحول يمنح الفلسطينيين مساحة أكبر للتحرك قانونياً ضد إسرائيل، سواء عبر المحاكم الدولية أو عبر فرض عقوبات ومحاسبة سياسية.
ما بين الدعوة الإسبانية الجريئة والاعتراف الفرنسي الرسمي، وبين موجة الاعترافات الدولية المتسارعة، يبدو أن القضية الفلسطينية تقف اليوم على أعتاب مرحلة جديدة. لم يعد بإمكان إسرائيل الادعاء بأنها الطرف الشرعي الوحيد، ولم يعد بالإمكان تجاهل الوجود الفلسطيني على المسرح الدولي. صحيح أن الطريق إلى الدولة الفلسطينية المستقلة لا يزال طويلاً ومعقداً، لكن ما يجري اليوم يمثل بداية واقعية لتغيير عميق في المعادلة الدولية. لقد أصبح الاعتراف بفلسطين حقيقة سياسية لا يمكن التراجع عنها، ومعها بدأ يتشكل ميزان جديد للقوة والشرعية في المنطقة والعالم.