تشهد الساحة الدولية في سبتمبر 2025 موجة من التحالفات التي تبدو أقل تأثّراً بالأيديولوجيا وأكثر توجهاً إلى حسابات المصالح الصلبة: أمن، اقتصاد، قدرة ردع واستبقاء نظام حكم.
هذه التحوّلات تُقرأ بوضوح خلال منظور الواقعية في العلاقات الدولية التي تضع خلالها الدول ومصالحها ولا سيما بقاءها وتعظيم قدراتها في محور الاهتمام. ما يجري اليوم ليس فوضى، بل إعادة ترتيب براغماتية تقودها عدة أسباب أساسية سوف يتم تحليلها وتفنيدها، لا سيما التقارب السعودي–الباكستاني والتحالفات المتعاظمة بين قوى كبرى.
وهو ما يقتضي في البداية تحليل أسباب هذا النهج على المستوي الإقليمي، أولاً، يأتي فراغُ الثقة بضمانات الحليف القديم والذي يتزامن مع تراجع المصداقية الأمريكية في المقام الأول كونه يمثل أحد الأسباب الجوهرية لاندفاع دول نحو شراكات جديدة علي خلفية أحداث صادمة أو مفاجآت عسكرية إقليمية تُسرع هذا التحول، وانخفاض الإحساس بالأمن الذي اعتادت عليه دول الخليج دفعها إلى البحث عن بدائل سريعة وفعالة، سواء عبر تبادل أو بيع قدرات دفاعية أو عبر اتفاقات دفاع مشترك تعِد بردعٍ فوري.
هذا العامل يفسّر جزئياً سرعة توقيع صفقات وتحالفات في سبتمبر 2025 على خلفية الضربة التي وجهها جيش الاحتلال إلي الدوحة ، ثانياً: مبدأ الصدمةٌ الأمنية والمحفزات الآنية التي تُسرّع التوافقات، فالقرارات والتحرّكات الأمنية المفاجئة في المنطقة تعمل كحاضنات لتقارب سريع بين الدول، وهو علي سبيل المثال ما يعكس لاتفاق الدفاعي الأخير بين السعودية وباكستان والذي جاء في سياق احتراز إقليمي ومخاوف متبادلة مما يُنظر إليه تهديدات استراتيجية، وهو مثال صارخ على كيفية تحويل حدث أو سلسلة أحداث إلى حافز لإبرام شراكات استراتيجية.
ثالثاً: تبادل المصالح الاقتصادية والأمنية وصفقة المال مقابل الأمن، فالواقع العملي يقود إلى صفقات تبادلية: دول ذات ثروات مالية تبحث عن قدرات عسكرية أو نفوذ سياسي، ودول ذات مركبات عسكرية أو نفوذ إقليمي تبحث عن سيولة واستثمارات. تحالف السعودية وباكستان يعكس هذه المعادلة بوضوح؛ فالمملكة تحتاج إلى تعزيز قدرتها على الردع وإظهار عمق استراتيجي مستقل، بينما باكستان تستفيد مالياً وسياسياً من شريك خليجي كبير. هذا النوع من الربط العملي بين الأمن والاقتصاد يشيع اليوم على نحو لم نعهده بنفس الكثافة في عقود سابقة.
رابعاً: التكامل الاستراتيجي بين القوى الكبرى، التعاون الاقتصادي مقابل الضغوط الجيوسياسية، على مستوى أوسع، التقارب الروسي–الصيني مثال آخر على منطق الواقعية: تعاون اقتصادي عميق (طاقة، بنى تحتية، تكنولوجيات) يُستخدم لتأمين مصالح استراتيجية ومواجهة عزلة أو ضغوط خارجية. مشاريع طاقية كبيرة واتفاقيات بنى تحتية تُحوِّل العلاقات إلى شبكة مصالح متبادلة تُصعّب تفكيكها وتعمل كأداة ضغط وإستراتيجي.
خامساً: التقارب الإقليمي البراغماتي بالتطبيق علي حالات المتوسط والشرق الأوسط، إذ أن تجارب التقارب بين دول لم تكن في صف واحد سابقاً، مثل مسار التقارب التركي–المصري، تُبيّن أن المخاطبات الإقليمية أصبحت أكثر براغماتية: إدارة ملفات مشتركة (أمن بحري، ليبيا، حدود بحرية) أفضل من رهانات الصراع الطويل الأمد. مثل هذه التحوّلات تستند إلى تقدير كلاسيكي للتكلفة-المنفعة: التعاون المؤقت يخفض مخاطرة المواجهة ويفتح آفاقاً اقتصادية وسياسية
أخيرا: الدوافع الداخلية والحسابات النظامية، حيث أن حكومات قد تستخدم تقارباً خارجياً لدرء أزمات اقتصادية، لتعزيز شرعيتها، أو للالتفاف على ضغوط داخلية. إعلان تحالفات أمنية أو اقتصادية كبيرة يمنح حكماً شرعية مقتدرة في إدارة التهديدات الخارجية ويزرع شعوراً بالأمان لدى قواعدها الانتخابية/السياسية.
ربما تساهم السياسة الانعزالية لإدارة ترامب في تسريع وتيرة تغير النظام الدولي نحو "التعددية القطبية"، لكن هذه السياسة يمكن أن تكون مؤقتة لارتباطها بإدارة ترامب، ما يعني قابليتها للتعديل والمراجعة مستقبلياً في حال تغير الإدارة الأمريكية، ومع ذلك يبقى هذا الأمر مرهوناً بالمصالح السياسية الداخلية التي قد تحد من التغييرات الجذرية وتؤثر في مرونة السياسة الخارجية.
وعند استقراء وتفنيد سعي السعودية إلى تحالفات أمنية جديدة مع تأكل الثقة في الولايات المتحدة، وبالتالي أن اتفاق الدفاع الاستراتيجي بين السعودية وباكستان، جاء بعد أسبوع من تنفيذ إسرائيل الهجوم على قادة حركة حماس في قطر.
لاسيما أن الاتفاق قد يغير ميزان القوى الإقليمي، حيث يشير إلى أن شريكاً قديماً للولايات المتحدة في الشرق الأوسط يسعى للابتعاد عن الاعتماد على واشنطن في أمنه القومي. وفي هذه الحالة. لجأت السعودية إلى قوة عسكرية إقليمية ترتبط بتحالف مع روسيا والصين، بينما تحافظ في الوقت نفسه على علاقاتها مع الولايات المتحدة.
إن الخطوة تشكل ضربة لخطط تقودها الولايات المتحدة لدمج إسرائيل بشكل أوثق في شراكة أمنية شرق أوسطية لاحتواء إيران.
من غير المرجح أن يحل الاتفاق محل الوجود الأمريكي في المنطقة، فالسعودية والولايات المتحدة ما زالتا تنسقان بشكل وثيق أمنياً واستخباراتياً، لكنه يبعث برسالة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل مفادها أن الخليج يبحث عن أمنه في أماكن أخرى.
وعند محاولة الإجابة عن تساؤل مفصلي في هذا الاطار، حول كيف رأت الصحف الإسرائيلية اتفاق التعاون العسكري بين السعودية وباكستان؟
سلطت الصحف والمواقع الإسرائيلية الضوء على اتفاق التعاون الاستراتيجي بين السعودية وباكستان، حيث بدا أن هناك نوعاً من التباين حول أسباب توقيع الاتفاق، حيث يرى البعض أن الأسباب مرتبطة بالهجوم الإسرائيلي على قطر، فيما اعتبر آخرون أن الاتفاق قد لا يكون موجهاً لإسرائيل فعلي سبيل المثال ، من أصحاب الرأي الأول مجلة "يسرائيل ديفنس"، التي قالت إن الاتفاق جاء في وقت باتت تشكك فيه دول الخليج في قدرة الولايات المتحدة على أن تكون ضامناً أمنياً مستقراً في المنطقة، وذلك بعد هجوم إسرائيل على قطر، فيما اعتبرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" أن توقيع الاتفاق لم يكن مصادفة، وأنه أول خطوة أمنية تتخذها دولة خليجية بعد هجوم الدوحة.
في المقابل، أرجعت القناة 14 المقربة من رئيس الوزراء نتنياهو، أسباب الاتفاق إلى مخاوف السعودية من تهديدات الحوثيين المدعومين من إيران، ومخاوف باكستان من الهند في ظل التنافس والصراع القائم بينهما، اعتباراً من أن الاتفاق سيعزز القلق لدى طهران ونيودلهي واتفقت "معاريف" مع هذا الطرح.
ختاما، يعبر منطق الواقعية لماذا تتشكّل هذه التحالفات بسرعة: الدول تسعى لزيادة قدراتها والحد من هشاشتها. لكن هذا المسار يحوي مخاطر: تفاقم سباق تسلّح إقليمي، إشعال حساسية دول ثالثة (مثال: ردود فعل نيودلهي تجاه تحالفات جديدة في الجوار)، وكذلك إمكانية ولادة تحالفات متداخلة تخلق معاملات أمنية معقّدة وغير مستقرة. كما أن تحول محاور القوة إلى تبادلات عملية أكثر منه إلى تحالفات مؤسسة على القيم قد يقلّب المشهد الدولي إلى نظام متعدد الأقطاب مرن لكنه أقل قابلية للتنبؤ.
لذلك فالتحالفات المبرمة حاليا ليست مساراً عابراً بل مؤشر على أن الدول تعيد بناء توازناتها وفق منطق واقعي بحت نحو هندسة أمنية جديدة قوامها تنويع الشراكات واعتماد منطق براغماتي صارم: أمن يُقاس بقدرة الردع، اقتصاد يُقاس بالربحية والاستدامة، وسياسة خارجية تُقاس بالقدرة على المناورة. قراءة هذا المشهد تتطلب إدراك أن العالم ينتقل من وصفات ثابتة إلى معادلات مرنة ولكن بها كلفة؛ حيث ثمن البقاء أحياناً هو القبول بعلاقات عملية تتحول بسرعة إلى حقائق استراتيجية يصعب تلاشيها.