منذ اللحظة الأولى لإعلان قيام إسرائيل عام 1948، وقفت الولايات المتحدة إلى جانبها دون تردد، ليس فقط بالاعتراف السياسي الفوري، بل عبر بناء تحالف استراتيجي طويل الأمد تجاوز حدود المصالح التقليدية إلى شراكة كاملة في الأهداف والرؤية.
وقد بدا واضحًا منذ ذلك التاريخ أنّ المشروع الصهيوني في فلسطين لم يكن ليُستمر لولا المظلّة الأمريكية التي وفّرت له الدعم المالي والعسكري والسياسي على مدى أكثر من سبعة عقود.
في بدايات الخمسينيات والستينيات، ومع اشتداد الحرب الباردة، وجدت واشنطن في إسرائيل ذراعًا متقدمة لحماية مصالحها في الشرق الأوسط ومواجهة النفوذ السوفييتي في العالم العربي.
غير أنّ هذا التحالف سرعان ما اكتسب طابعًا أعمق، إذ تحوّلت إسرائيل إلى “حليف دائم” لا يُمسّ، وتحول الدعم الأمريكي من مساندة دبلوماسية إلى التزام عسكري واقتصادي شامل.
وبعد حرب عام 1967، عندما احتلت إسرائيل الضفة الغربية والقدس الشرقية وسيناء والجولان، لم تكتفِ أمريكا بتبرير العدوان، بل ضخّت مليارات الدولارات في شكل مساعدات عسكرية سنوية حتى تجاوزت قيمة المساعدات الأمريكية لإسرائيل 150 مليار دولار، وهو رقم يجعلها أكبر متلقٍّ للدعم الخارجي الأمريكي في التاريخ الحديث.
ومع مرور الزمن، لم يعد هذا الدعم مجرّد سياسة خارجية، بل أصبح جزءًا من البنية السياسية الأمريكية نفسها، تُغذّيه مؤسسات الضغط وعلى رأسها لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (AIPAC)، التي تمارس نفوذًا هائلًا في الكونجرس والإدارة وتفرض أجندة داعمة لإسرائيل مهما تغيّرت الإدارات أو الأحزاب.
وهكذا تحوّل الموقف الأمريكي من قضية فلسطين إلى انحياز بنيوي دائم يبرّر الجرائم الإسرائيلية تحت ذريعة “الدفاع عن النفس”، ويتجاهل حقوق الشعب الفلسطيني في الحرية والكرامة والعودة.
غير أن هذا التحالف لا يقوم فقط على السياسة والسلاح، بل يمتد إلى الاقتصاد والإعلام والثقافة.
فالشركات الأمريكية الكبرى، خاصة في مجالات التكنولوجيا والسلاح، تجني أرباحًا ضخمة من استمرار النزاع، فيما تعمل مؤسسات إعلامية غربية على تلميع صورة إسرائيل وتشويه المقاومة الفلسطينية.
وبهذا تتحول المأساة إلى تجارة، والعدوان إلى فرصة استثمارية، والاحتلال إلى "قضية أمنية" تبرّرها لغة المصالح.
إن تاريخ الدعم الأمريكي لإسرائيل هو في جوهره تاريخ تواطؤ أخلاقي قبل أن يكون تحالفًا سياسيًا، لأن واشنطن، التي تتحدث عن حقوق الإنسان والديمقراطية في العالم، تمارس أفظع أشكال الكيل بمكيالين حين يتعلق الأمر بفلسطين.
فدماء الأطفال الفلسطينيين لا تُثير في البيت الأبيض سوى بيانات باهتة، بينما تُقابل صواريخ المقاومة بعقوبات واتهامات بالإرهاب.
لقد تحوّلت إسرائيل في الوعي الأمريكي الرسمي إلى “دولة مقدسة” لا تُسأل عن جرائمها، في حين يُدان الضحية لمجرد أنه قاوم. وهكذا يستمر التحالف الأمريكي–الإسرائيلي ليس بوصفه شراكة سياسية فحسب، بل كمنظومة متكاملة من المصالح والهيمنة والأيديولوجيا التي تغذّي بعضها بعضًا على حساب العدالة والإنسانية والدم الفلسطيني.
إن الدعم الأمريكي لإسرائيل لا يمكن تفسيره فقط بالمصالح السياسية أو الاقتصادية، بل يتجذّر في رؤية أيديولوجية توراتية ترى في إسرائيل “تحقيقًا لوعد إلهي”.
فداخل التيار الإنجيلي المحافظ، الذي يملك نفوذًا واسعًا في السياسة الأمريكية، تُقدَّم إسرائيل كرمز ديني مقدس يجب حمايته بكل الوسائل. هذه الخلفية اللاهوتية تسهم في تغذية الخطاب السياسي الأمريكي المؤيد لإسرائيل وتجعل من أي انتقاد لها “خطيئة سياسية” لا تُغتفر في نظر النخب الحاكمة.
وهكذا تختلط العقيدة بالسياسة، ويتحوّل الدعم إلى نوع من “الإيمان السياسي” الذي لا يخضع للعقل أو القيم الإنسانية.
بينما تُعلن واشنطن أنها حامية الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم، تلتزم الصمت حين تُقصف غزة أو تُهدم البيوت على رؤوس ساكنيها، بل تُبرّر القتل ببيانات معدّة مسبقًا تتحدث عن "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها". هذا التناقض الفاضح كشف للعالم أن الخطاب الأمريكي عن الحرية ليس سوى ستار يُخفي نفاقًا سياسيًا مفضوحًا، حيث تُقاس القيم بميزان المصالح لا المبادئ.
وأوضح النص أن خطر الإعلام الأمريكي لا يقلّ عن خطر السلاح، فوسائل الإعلام الكبرى في واشنطن ونيويورك تمارس دورًا منهجيًا في تبرير الاحتلال باستخدام لغة دقيقة وموجهة. فحين يقتل الجيش الإسرائيلي مدنيين فلسطينيين تُوصف الجريمة بأنها "اشتباك"، وحين يُلقى حجر على جندي إسرائيلي يُوصف الفعل بأنه "هجوم إرهابي".
هذا التلاعب اللغوي صنع وعيًا مشوّهًا لدى الرأي العام الغربي، وجعل الضحية مجرمًا والمجرم ضحية.
رغم هذا التواطؤ الرسمي، فإن صورة إسرائيل داخل المجتمع الأمريكي بدأت تتآكل، فحركات طلابية واسعة في الجامعات الأمريكية ومنظمات حقوقية مستقلة صارت ترفع صوتها ضد الاحتلال وتفضح الانحياز الأمريكي.
هذا التحوّل الشعبي، وإن كان بطيئًا، يشير إلى تصدع قادم في جدار التحالف التقليدي، ويكشف أن الضمير الإنساني لا يمكن أن يُقمع إلى الأبد.
بعد كل هذه العقود، لم تعد واشنطن قادرة على خداع العالم بادعاء الحياد. لقد أصبحت شريكًا مباشرًا في الجريمة، وتموّل الاحتلال وتحميه سياسيًا وتغطيه إعلاميًا. فحين تسقط القنابل الأمريكية على أطفال غزة، وحين يُمنح القاتل سلاحًا ومبررًا، لا يمكن الحديث عن "وسيط للسلام"، بل عن دولة متورطة حتى النخاع في إنتاج المأساة واستمرارها.
في النهاية، لا يمكن لأي عاقل أن يفصل بين المشروع الأمريكي والمشروع الصهيوني؛ فهما وجهان لعملة واحدة تجمعهما المصالح والسيطرة، وتغذيهما أيديولوجيا قائمة على التفوق والهيمنة.
وأؤكد أن الدعم الأمريكي لإسرائيل لم يكن يومًا دعمًا لدولة “حليفة”، بل هو استثمار طويل الأمد في كيان يقوم بدور الوكيل العسكري والسياسي لواشنطن في قلب الشرق الأوسط.
ومن ثمّ، فإن أي حديث أمريكي عن “سلام” أو “وساطة” ليس سوى ستار دبلوماسي يخفي خلفه واقعًا دمويًا من التواطؤ والانحياز. لقد آن الأوان أن تدرك الشعوب العربية أنّ أمنها القومي لا يُبنى على وعود واشنطن، بل على وعي جماعي بمشروع يتجاوز مجرد الرفض إلى صياغة بدائل حقيقية تنهي عقودًا من الخداع الأمريكي والإرهاب الإسرائيلي المتبادل المصالح.