في لحظةٍ فارقة من تاريخ الأمة، وقفت مصر، لا حاملةً سيفها فقط، بل شامخةً بحكمتها، ثابتةً بمواقفها، ناطقةً بصوت الحق في عالم اختنق بضجيج الزيف.
لم تكن الحرب، كما تخيّلها البعض، هروبًا من السياسة، بل كانت في جوهرها امتدادًا لدبلوماسية وطنية قاومت وحدها جمود القوى العظمى، وانحياز الغرب، وصمت العالم.
الحق حين يُمهَد له بالصبر... لا بالاستسلام
بعد جولات متعددة من اللقاءات بين حافظ إسماعيل، مستشار الأمن القومي المصري، وهنري كيسنجر، مهندس السياسة الأمريكية، اتضحت الصورة كاملة أمام القيادة المصرية: أمريكا ليست وسيطًا نزيهًا، ولا راغبة في تحقيق السلام، بل هي درع سياسي لإسرائيل، وسدّ منيع أمام أي تسوية تعيد للعرب حقوقهم المغتصبة.
لكن مصر، التي لطالما خاضت معاركها بشرف، لم تيأس من ساحات السياسة.ذهبت إلى مجلس الأمن بدعم من حركة عدم الانحياز، تطالب بتفعيل القرار 242،تطالب فقط بما هو حق وعدل وقانون،لكن جاء الرد الأمريكي بفيتو سافر، كشف الأقنعة وأسقط ورقة التوت.
هنا، أدرك الرئيس أنور السادات أن المعركة باتت حتمية.لكنها لم تكن معركة حدود فقط، بل معركة كرامة.
لم تكن حربًا من أجل الحرب، بل حربًا من أجل السلام الحقيقي،ذلك السلام الذي لا يُمنح، بل يُنتزع، وتُكتب شروطه بمداد الشرف، لا بحبر المساومات.
جمع السادات بين الاستعداد العسكري المدروس والتحرك السياسي الذكي.وفي لحظة كان فيها العالم يتفرج على احتلال وقح، قدمت مصر نفسها كدولة تطالب بما هو مشروع، لا أكثر.
لم تكن مصر وحدها في تلك اللحظة.فقد استطاع الأداء السياسي المصري أن يُحرك الرأي العام الدولي، ويُعيد تعريف الصراع بعيدًا عن الرواية الصهيونية.
- في إفريقيا، قطعت 22 دولة علاقاتها مع إسرائيل.
- في العالم العربي، أُعلن حظر النفط على الغرب، فارتبكت حسابات القوة.
- في أوروبا، بدأت ملامح التذمر من سياسة الاحتلال تظهر على السطح.
- أما الكتلة الشرقية، فقد دعمت مصر علنًا، سياسياً وعسكريًا.
- وداخل محافل الأمم المتحدة، تكلم مندوبو العالم بلغة أقرب للحق، بفضل خطاب مصري مدروس لا يتاجر بالدم، بل يُمهّد لعودة الأرض.
كل ذلك، لم يكن وليد لحظة، بل ثمرة عمل دبلوماسي طويل، مرن، صبور، وشجاع، حرّكه إيمان عميق بعدالة القضية، وإرادة سياسية لا تعرف التراجع.
الرسالة التي غيّرت التاريخ: لم تكن رسائل مصر للعالم خطابات إنشائية أو شكاوى متكررة، بل كانت بيانات موقف، تقول للعالم:
"نحن نُمهّد للسلام، ونُمهّد للحرب في آنٍ واحد. نحن نُعطي فرصة للعقل، لكننا لا نُفرّط في الأرض."
هذا التوازن العبقري هو ما صنع الشرعية السياسية والعسكرية لحرب أكتوبر،وهو ما جعل من مصر، لا مجرد طرف في صراع، بل قائدًا لمرحلة عربية جديدة.
في الختام...لقد أثبتت مصر، من خلال هذه المرحلة الدقيقة، أن السياسة ليست انحناء، وأن الدبلوماسية لا تعني التنازل. وأن الكلمة إن خرجت من فم وطني، وكتبها عقل مخلص، قد تُغير من مصير أمة.
فلم تكن حرب أكتوبر لحظة عابرة، بل كانت تتويجًا لمرحلة من النضال السياسي الخالص،مرحلة كتبها رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه...وفي مقدمتهم الرئيس السادات، وحافظ إسماعيل، وكل جندي حمل سلاحه بعد أن شحذه بالحق.