على مر التاريخ، سطر عدد من العلماء والباحثين أسماءهم في سجل التضحيات الإنسانية، بعدما وضعوا حياتهم على المحك في سبيل خدمة العلم وفهم أسرار الطبيعة البشرية.
تضحيات خالدة في سبيل المعرفة
من بين أبرز هؤلاء، تبرز العالمة الفرنسية ماري كوري التي تعرضت لإشعاعات قاتلة خلال أبحاثها في الفيزياء والكيمياء، ما أدى إلى وفاتها لاحقا، وكذلك الطبيب الروسي ألكسندر بوغدانوف الذي أجرى تجارب خطيرة لنقل الدم على نفسه وانتهت بموته، وعالم البيولوجيا الأميركي جيسي لازير الذي تعمد إصابة نفسه بالحمى الصفراء للبحث عن علاج فعال لها.
لكن بين صفحات التاريخ، تبرز أيضاً قصة مختلفة لرجل عادي تحول إلى أحد أهم "فئران التجارب" البشرية التي ساهمت في فهم أحد أكثر أسرار الجسد البشري تعقيداً عملية الهضم.
من تاجر فراء إلى تجربة علمية فريدة
وُلد الكندي ألكسيس سانت مارتان في الثامن من أبريل عام 1802 في مقاطعة كيبيك الكندية، وكان يعمل في صيد الحيوانات وتجارة الفراء.

غير أن حادثاً مأساوياً غير مجرى حياته بالكامل، حين أُصيب بطلق ناري من بندقية “مَسكيت” في السادس من يونيو عام 1822 أثناء وجوده في مركز لتجارة الفراء بجزيرة ماكيناك.
نقل سانت مارتان في حالة حرجة إلى الطبيب العسكري الأميركي ويليام بومونت، الذي اعتقد أن نجاته مستحيلة، بعدما هشمت الرصاصة أضلاعه وأحدثت ثقبا في جدار معدته.
ولادة "ناسور علمي" غير متوقع
خلال متابعة الطبيب لحالة مريضه، لاحظ بومونت مرور الطعام من المعدة عبر فتحة الناسور التي نتجت عن الجرح، وهو أمر نادر للغاية وبعد 17 يوم فقط، بدأت معدة سانت مارتان تعمل بشكل شبه طبيعي، لكن الفتحة لم تغلق تماما ما خلق فرصة فريدة لمراقبة عملية الهضم بشكل مباشر.
200 تجربة داخل معدة إنسان
رأى الطبيب بومونت في هذه الحالة فرصة علمية لا تقدر بثمن، فعرض على سانت مارتان إجراء تجارب علمية مقابل أجر مالي، فوافق الأخير، ليبدأ فصل جديد في تاريخ الطب.
بين عامي 1825 و1833، أجرى بومونت أكثر من 200 تجربة على معدة سانت مارتان، حيث كان يدخل قطعا صغيرة من الطعام مربوطة بخيوط لمراقبة سرعة الهضم والعصارات الهضمية، إضافة إلى دراسة تأثير نوع الطعام، ودرجة الحرارة، والحالة النفسية على العملية.
ولم يشعر سانت مارتان بالألم خلال هذه التجارب إلا في حالات نادرة، ما جعل هذه التجربة من أكثر الدراسات البشرية واقعية وأمانة في تاريخ الطب الحديث.
نتائج غيرت تاريخ الطب
بفضل هذه التجارب، تمكن بومونت من تحديد كيفية عمل العصارات المعدية ودورها في تحليل الطعام، كما ساعدت نتائجه في تحديد موقع بداية عملية الهضم في جسم الإنسان.
ونتيجة لذلك، لقب الطبيب ويليام بومونت بـ"أب طب الجهاز الهضمي".
أما ألكسيس سانت مارتان، فرغم إصابته الخطيرة التي أبقت معدته مكشوفة جزئيا فقد عاش حياة طبيعية حتى وفاته عام 1880 عن عمر ناهز 78 عاما تاركا وراءه قصة تجسد كيف يمكن للتضحية الفردية أن تغير مجرى العلم والبشرية.


