لم يعد التحول الرقمي في القطاع المصرفي المصري مجرد طموح تقني أو خطة مستقبلية، بل أصبح واقعاً ملموساً يتجلى في الأرقام التريليونية والمعاملات المالية الرقمية التي أعلنها البنك المركزي المصري مؤخرًا خلال مشاركته في معرض ومؤتمر «PAFIX».
وهذا التحول يمثل نقطة فاصلة في تاريخ القطاع المالي المصري، حيث تتغير منهجية التعامل مع المال من خلال الابتكار الرقمي، ليصبح الهاتف المحمول والبيانات والذكاء الاصطناعي أدوات أساسية في حياة المواطنين الاقتصادية اليومية، بعيداً عن الاعتماد التقليدي على النقد الورقي والخدمات المصرفية التقليدية.
بدأ البنك المركزي المصري منذ خمس سنوات استراتيجية التحول الرقمي بهدف تعزيز الشمول المالي وزيادة الشفافية والكفاءة في إدارة الموارد المالية للدولة والمواطنين.
وتهدف هذه الاستراتيجية إلى تحويل التكنولوجيا من أداة مساعدة إلى المحرك الرئيس للنمو الاقتصادي، بما يشمل تعزيز سرعة دوران النقود، خفض تكلفة تداول النقد (Cost of Cash)، وتسهيل وصول الخدمات المصرفية إلى مختلف شرائح المجتمع، بما في ذلك المواطنين في المناطق النائية.
ومن أبرز المشاريع النوعية مشروع «التعرف الإلكتروني على الهوية» (eKYC)، الذي يسمح بفتح الحسابات المصرفية عن بُعد دون الحاجة لزيارة الفروع، وبالتالي إزالة أكبر عقبة أمام إدماج المواطنين في النظام المصرفي، خاصة في المناطق النائية.
التقنيات الحديثة والتوسع في المدفوعات الرقمية
يولي البنك المركزي أهمية كبيرة للمدفوعات اللا تلامسية، حيث استحوذت على 50٪ من معاملات نقاط البيع، مع نجاح خدمة Apple Pay التي سجلت معاملات بقيمة 32 مليار جنيه، في حين يجري التحضير لإدماج خدمات Android قريباً.
ويبرز هنا دور التكنولوجيا في تسهيل عمليات الدفع للمواطنين والتجار، بما يعزز سرعة المعاملات وتقليل التكاليف التشغيلية.
التمويل والتقييم الائتماني
أشار المهندس أيمن حسين، وكيل أول المحافظ، إلى استخدام البيانات البديلة ونماذج تعلم الآلة (Machine Learning) في التقييم الائتماني.
وقد حل هذا النظام مشكلة «الوسط المفقود» في مصر، أي الأفراد والشركات الصغيرة القادرة على السداد لكنها تفتقر لسجل ائتماني تقليدي.
ويتيح التقييم السلوكي منح التمويل بناءً على سلوك المواطنين في دفع الفواتير، التحويلات عبر الموبايل، والمشتريات، ما يفتح الباب أمام توسع تمويل قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة بنسبة 395٪، مع توقع زيادة أكبر مع تطبيق هذه التقنيات الحديثة.
تكنولوجيا نقاط البيع الناعمة والاقتصاد المجهرى
يسعى البنك المركزي إلى تعميم «نقاط البيع الناعمة» (Soft POS) لاستهداف الاقتصاد المجهرى، مثل سائقي التاكسي والمتاجر الصغيرة والحرفيين، من خلال تحويل الهاتف المحمول إلى جهاز دفع، مما يلغي الحاجة إلى شراء أجهزة POS التقليدية. كما يضمن هذا التوجه دمج هؤلاء التجار في المنظومة الرسمية بسلاسة، إلى جانب خطط أتمتة تسجيل التجار التي أعلن عنها وكيل مساعد المحافظ.
الاستثمار في العنصر البشري
أكد القائمون على البنك المركزي على أهمية العنصر البشري لضمان استدامة التحول الرقمي، عبر مبادرات مثل (FinYology)، أكاديمية الديجيتال، وبرامج بكالوريوس العلوم المصرفية. ويهدف هذا الاستثمار إلى تلبية الطلب المتزايد على الكفاءات الرقمية محلياً، ومواجهة نزيف العقول للخارج، لضمان تشغيل وتطوير المنظومة المعقدة للبنوك الرقمية.
الآثار الاقتصادية والاجتماعية
تؤكد قراءة البيانات أن مصر تجاوزت مرحلة التجربة في التكنولوجيا المالية، ودخلت مرحلة الاعتماد الكامل، حيث ترتفع نسبة الشمول المالي إلى 76.3٪، مع توقع وصول المعاملات الإلكترونية إلى 8 مليارات معاملة بنهاية العام. كما أصبح الهاتف المحمول هو الفرع البنكي، والذكاء الاصطناعي المستشار المالي، والبيانات الرقمية هي العملة الجديدة في الاقتصاد المصري.
ما يحققه البنك المركزي من موازنة دقيقة بين تشجيع الابتكار الرقمي عبر بيئة التجربة التجريبية (Sandbox) وحماية الاستقرار المالي عبر اللوائح التنظيمية، يضع مصر على طريق اقتصاد أكثر كفاءة وشمولاً. فمع التحول الرقمي الشامل، يصبح النظام المالي أكثر شفافية وسرعة واستدامة، مع تمكين المواطنين والتجار من الاستفادة من الخدمات المصرفية بأقل جهد وتكلفة، ما يمهد لمرحلة جديدة من النضج المالي الرقمي في الاقتصاد المصري، ويضع البيانات والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في قلب هذه التحولات التاريخية.