كشف الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق، وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، عن معنى التوبة ومراحلها وماذا يحدث لك خلال هذه التوبة.
السير فى طريق الله
وقال ان «السير في طريق الله» يبدأ بالتوبة.
معنى التوبة
وأوضح أن معنى التوبة أن ينخلع من المعاصي، وأن يعاهد نفسَه على أن يترك المعاصي، وأن يُعطِّل مَلَكَ السيئات، أي يجعل مَلَكَ السيئات لا يكتب عليه شيئًا.
درجات الانخلاع عن المعاصي
وبين ان هذا الانخلاع له درجات:
أولها: الانخلاع من المعصية؛ المعصية هي التي يقول عنها الشرع: إن هذا حرام، فالإنسان قرَّر مع نفسه ألَّا يفعل هذا الحرام.
وهناك توبة أخرى، وهي: الانخلاع من كلِّ ما يشغل القلب عن الله، من ولد، ومن مال، ومن حبٍّ للأكوان، وللسُّلطة، ولِلجاه، ولِلشهوات. الإنسان هنا لم يرتكب حرامًا لكي يتوب منه، فهو قد تركه، لكنه الآن يتوب من شيء آخر؛ يتوب من الانشغال عن الله وكأنَّ الانشغال عن الله – وهو أمر يقع فيه جُلُّ البشر – معصية، لا، ليس معصية، لكن كأنَّه معصية، وهو لعلوِّ همته يعتبره في حقِّه معصية، فيُخلِّي قلبه من شواغل الدنيا ومشاغلها.
«يُخلِّي قلبه»: هذه كلمة وقف عندها السادةُ الصوفية كثيرًا؛ وقفوا عند التخلية من القبيح، ويأتي بعدها عندهم معنى آخر، وهو أن «يُحَلِّي قلبه» بكل صحيح، وهذه هي التحلية.
إذن فهناك مرحلتان، وهما: التخلية، والتحلية؛
التخلية: تفريغ القلب من الصفات القبيحة؛ من الحقد، والحسد، والكذب، والنميمة…
والتحلية: تجميل القلب بهذه الصفات العالية من التوكُّل، ومن الحبِّ في الله، ومن الاعتماد على الله، ومن الثقة بما في يد الله… إلخ.
وأشار إلى أن السالك إلى الله لا يزال إلى الآن في المرحلة الأولى من الطريق، ومن التوبة؛ فإنه خلَّى قلبه من القبيح، وحلَّى قلبه بالصحيح.
لكن تأتي توبة أخرى بعد ذلك، في مرحلة ثانية، يتشوَّق فيها قلبُ هذا التقيِّ النقي، الذي خلَّى نفسَه وجوارحه من المعصية، ثم خلَّى قلبه من الشوائب، ثم حَلَّى قلبه بتلك المعاني الفائقة الرائقة، وهو في كلِّ ذلك يريد من الله سبحانه وتعالى أن يتجلَّى على قلبه.
وهذا التجلي يأتي بعد التخلِّي والتحلِّي.
معنى التجلي
معنى التجلي – كما قالت السادة الصوفية –: «التخلُّق بأخلاق الله»؛ فالله تعالى رحيم، فلا بد من أن نكون رحماء، والله تعالى رؤوف، فلا بد أن نكون كذلك، والله تعالى غفور، فلا بد أن نكون متسامحين، نغفر للآخرين… ويصبح الإنسان في رضا عن الله، عنده تسليمٌ تامٌّ بقدر الله. هذا الرضا وهذا التسليم يتدرَّجان في قلبه على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى:
هي مرحلة يسلِّم فيها بأمر الله، ويُقاوِم نفسَه من الاعتراض، ومن الحزن؛ فهو يحزن، لكنه يمنع نفسَه من أن يعترض على أمر الله، وهو أيضًا يبكي ليل نهار على فقدان الولد مثلًا، لكنه ساكن القلب إلى حكمة الله تعالى.
المرحلة الثانية:
لا يحزن؛ فلو مات له ابنٌ، أو أصابته مصيبة، فإنه يضحك، والسبب: اليقين في لُطف الله وحكمته.
المرحلة الثالثة:
يبكي؛ لأنه يستحضر في نفسه أن الله قد أفقده هذا العزيز لديه الآن من أجل أن يبكي، فهو لا يبكي حزنًا، إنما هو يبكي لله، وهذا هو الذي كان عليه مقام النبوة وأكابر الأولياء؛ فلما فقد النبيُّ ﷺ ابنَه إبراهيمَ بكى.
وفي حديث آخر أنه قد أرسلت ابنةُ النبي ﷺ إليه: «إنَّ ابنًا لي قُبِض، فائْتِنا»، فأرسل يُقرِئ السلام، ويقول: «إنَّ لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلٌّ عنده بأجلٍ مسمًّى، فلتصبِر ولتحتسِب». فأرسلت إليه تُقسِم عليه ليأتينَّها، فقام ومعه جماعةٌ من أصحابه، فرفع إلى رسول الله ﷺ الصبيُّ وهو في النَّزع، ففاضت عيناه ﷺ، فقال سعد: يا رسول الله، ما هذا؟! فقال: «هذه رحمةٌ جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم اللهُ من عباده الرُّحماء».
والنبي ﷺ يبكي على إبراهيم، ولكنه يبكي لأن الله قد قدَّر لمن أُصيب بمصيبة أن يبكي؛ فالأوَّل يبكي حزنًا، والثاني يضحك رِضًى، والثالث يبكي مرةً ثانية قهرًا تحت سلطان الله سبحانه وتعالى، واستجابةً لمقتضى ما أجراه الحقُّ في هذا الوقت المخصوص من أحوال؛ وكأن الله أرادني الآن أن أحزن، فأنا أحزن لذلك.
مراحل التوبة
فالتوبة إذن أول الطريق، وهي مراحل:
أولها: توبةٌ من المعصية.
ثم: توبةٌ من الأكوان بالتخلية والتحلية.
ثم بعد ذلك: توبةٌ من كلِّ شيءٍ سوى الله.
ومن تاب عمَّا سوى الله، تجلَّى اللهُ عليه بصفاته، فكان عبدًا ربانيًّا، يدعو الله ويقول: «يا رب»، فيستجيب الله له، وكان عبدًا ربانيًّا في رضاه بالله، وفي تسليمه لأمر الله، لا مزيد على ذلك عليه، ويكون بذلك قد فعل هذا الشيء الذي يُسمَّى التوبة.
فما الذي يحدث لي أثناء هذه التوبة؟
أوَّلًا: أن أتوب عن المعاصي.
ثانيًا: التخلية والتحلية.
ثالثًا: مرحلة التجلي والرِّضا التام تحت قهر الله.


