قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إن من العفاف الباطني "التواضع"، وفيه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ» (صحيح مسلم).
وأضاف جمعة، في منشور له عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، أن ربنا عز وجل أمرنا في آياتٍ كثيرة بهذا التواضع، وأن يكون لله، ونهانا عن الكِبْر، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ» (سنن أبي داود).
ويقول ربنا سبحانه وتعالى في نصيحة لقمان لابنه، التي ربط فيها بين العفاف الباطن والظاهر: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 18- 19].
ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى فرَّق بين المعاني الدقيقة، فجعل القوَّة في طلب الحق ليست من قبيل الكِبْر، بل من قبيل عمارة الدنيا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
وقال تعالى وهو يشرح هذا المعنى كله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
فنراه سبحانه يستعمل لفظَ العِزَّة، ويستعمل لفظَ الشِّدَّة، وهو الذي نهى نهيًا تامًّا عن الكِبْر والتكبُّر، قال تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60]، وقال: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 72]، وقال: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56].
ومن العفاف الباطن "الشهامةُ والنجدةُ والنصرةُ والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر"؛ ولذلك نرى في واقع الناس أن الذي فقد العفافَ الظاهر ليست عنده هذه المعاني، ولا يلتفت إليها، ولا يضعها في مكانها الصحيح، ويرآها نوعًا من أنواع السذاجة، ويجادل فيها بغير علم، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الحج: 3]. وفي هذه المعاني يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ قَبْلَ أَنْ تَدْعُوا فَلَا يُسْتَجَابَ لَكُمْ» (سنن ابن ماجه).
إن هذا كلَّه من "الجهاد الأكبر"، الذي عندما يُفْقَد يَتِيه الجهادُ الأصغر ويضيع؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «رَجَعْنَا مِنَ الجِهَادِ الأَصْغَرِ إِلَى الجِهَادِ الأَكْبَرِ» (أخرجه البيهقي في الزهد).
وربنا يقول:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78].
وبشَّر اللهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مَن تركَ الجهادَ في سبيله بالذُّلَّة، فقال: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» (سنن أبي داود).
وعِلَّةُ ذلك أننا لا نستطيع الجهادَ الأصغر إلا إذا رجعنا إلى الجهاد الأكبر، وهو جهادُ النفس، ومُجْمَعُه العفافُ الباطني، وإذا فقدنا الجهادَ الأكبر فقدنا معه الجهادَ الأصغر، فنظل في حيرةٍ لا نعرف لها نهاية.