لم يكن نقل مقبرة أمير الشعراء أحمد شوقي لمقابر تحيا مصر للخالدين حدثًا عابرًا في سياق أعمال التطوير العمراني التي تشهدها القاهرة، بل تحوّل إلى قضية رأي عام فجّرت نقاشًا واسعًا حول مصير مقابر الرموز الثقافية، وحدود ما يمكن اعتباره «تطويرًا» دون المساس بالذاكرة الوطنية.
فبين بيانات رسمية تؤكد أن ما جرى هو نقل مدروس لحماية المقبرة من التدهور، وروايات متداولة عن إزالة كاملة للموقع القديم، وجد المثقفون أنفسهم أمام أسئلة شائكة تتعلق بالتراث، والشفافية، وحق المجتمع في معرفة ما يحدث لرموزه التاريخية.

بداية الجدل جاءت مع تداول أنباء عن إزالة مقبرة أحمد شوقي بمنطقة السيدة نفيسة، إحدى المناطق ذات الطابع التاريخي، وتضارب المعلومات حول مكان نقل الرفات، وسرعان ما تصاعدت ردود الفعل، خاصة في الأوساط الثقافية، نظرًا للمكانة التي يحتلها شوقي في الوجدان العربي، بوصفه أحد أعمدة الشعر الحديث، وصاحب تأثير ممتد تجاوز حدود مصر إلى العالم العربي بأسره.

في خضم هذا الجدل، أوضح المهندس محمد أبو سعدة، رئيس الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، في تصريحات خاصة، الخلفية العامة للتعامل مع مقابر الشخصيات ذات القيمة التاريخية، مؤكدًا أن مشروعات تطوير وتوسيع الطرق في بعض المناطق فرضت واقعًا معقدًا، تطلّب التعامل مع مقابر تحمل قيمة تاريخية أو تخص شخصيات بارزة، مع التشديد على أن الدولة تتعامل مع هذا الملف بمنتهى الاحترام، وبمنطق الحماية لا الإزالة.
وأكد أن أي تعارض بين التطوير والمقابر ذات القيمة يخضع لضوابط واضحة، خاصة إذا كانت المقابر مسجلة كآثار أو مرتبطة برموز مؤثرة في التاريخ المصري.
وأشار أبو سعدة إلى أن مقبرة أمير الشعراء أحمد شوقي كانت تعاني منذ سنوات طويلة من مشكلات خطيرة، على رأسها ارتفاع منسوب المياه الجوفية، وهو ما تسبب في تلف أجزاء منها على مدار عقود، الأمر الذي جعل بقاءها في موقعها القديم يمثل تهديدًا حقيقيًا لها، ومن هنا، تم اتخاذ قرار نقلها إلى موقع أكثر أمانًا، يضمن الحفاظ عليها وصيانتها بشكل يليق بقيمتها التاريخية.

وأوضح أن الدولة، من خلال الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، أنشأت موقعًا مخصصًا تحت اسم «مقابر تحيا مصر للخالدين» خلف المتحف القومي للحضارة المصرية، ليكون مساحة جامعة لرموز مصر في مختلف المجالات، الثقافية والفنية والفكرية، وتم نقل مقبرة أحمد شوقي إلى هذا الموقع، مع الحفاظ على عناصرها المعمارية، وبالتنسيق الكامل مع أسرته ومحافظة القاهرة ووزارة السياحة والآثار، ووفق أسس علمية دقيقة تضمن عدم المساس بقيمتها.
ورغم هذه التوضيحات، استمرت حالة الجدل، مدفوعة بروايات متداولة من بعض العاملين في المنطقة القديمة، تحدثوا عن إزالة المقبرة وتسويتها بالأرض، وعدم وضوح الجهة التي نُقلت إليها الرفات، وأكد بعضهم أن أعمال الهدم تمت بالفعل ضمن خطة تطوير أوسع تشمل المنطقة بالكامل، وهو ما زاد من حالة الارتباك لدى الرأي العام.
في المقابل، أكدت مصادر مطلعة بمحافظة القاهرة أن نقل رفات أحمد شوقي وكافة متعلقاته تم بالكامل قبل البدء في أي أعمال هدم، وأن الموقع الجاري العمل به حاليًا خالٍ تمامًا من الرفات، وشددت المصادر على أن الإجراءات تمت وفق الأطر القانونية، وبما يليق بالمكانة التاريخية والثقافية لأمير الشعراء، وأنه لم يتم الشروع في هدم المقبرة القديمة إلا بعد التأكد الكامل من خلوها.
وأعادت محافظة القاهرة نشر الصور الأولى لقبر أحمد شوقي بعد إعادة دفن رفاته في مقابر تحيا مصر للخالدين بعين الصيرة، في محاولة لتبديد حالة الغموض، وأظهرت الصور التراكيب المعمارية الخاصة بالمقبرة بعد إعادة ترميمها، بالتنسيق مع جهاز التنسيق الحضاري، وبأسلوب علمي يستهدف الحفاظ على الطابع الأصلي للمقبرة.
غير أن الجدل لم يقتصر على مسألة النقل فقط، بل امتد إلى سؤال أعمق: هل فقدت المقبرة بنقلها من موقعها الأصلي جزءًا من قيمتها الرمزية المرتبطة بالسياق المكاني والتاريخي؟ هذا السؤال طرحه عدد من المثقفين وخبراء التراث، من بينهم الدكتور خالد عزب، الذي رأى أن قضية مقبرة أحمد شوقي تثير تساؤلات مشروعة، مطالبًا بمزيد من الشفافية في الإعلان عن تفاصيل نقل الشواهد، وما إذا كانت قد وُثّقت معماريًا وتاريخيًا بشكل كامل قبل الإزالة.

كما طُرحت مقترحات بديلة من بعض المثقفين، مثل نقل الرفات إلى متحف أحمد شوقي وبيته بالجيزة، باعتباره موقعًا مرتبطًا مباشرة بسيرة الشاعر، وهو ما اعتبره البعض حلًا يحافظ على الرمزية الثقافية، في حال تعذر الإبقاء على المقبرة في موقعها الأصلي.
من جانبه، أكد المهندس محمد أبو سعدة، أن مشروع مقابر تحيا مصر للخالدين لا يهدف فقط إلى الحفظ، بل إلى تقديم نموذج حضاري متكامل، يشبه ما هو موجود في عدد من الدول الأوروبية، حيث تُجمع قبور الرموز الوطنية في مزارات ثقافية مفتوحة للجمهور، كما يجري العمل على إعداد موقع إلكتروني يوثق أسماء الشخصيات المدفونة هناك وسيرهم الذاتية، ليكون مرجعًا ثقافيًا وسياحيًا.
وتستعد محافظة القاهرة لافتتاح مقابر تحيا مصر للخالدين رسميًا خلال الفترة المقبلة، في إطار مشروع أوسع لتطوير القاهرة التاريخية. وبينما ترى الجهات الرسمية أن ما جرى يمثل تكريمًا حقيقيًا للرموز الوطنية، يظل الجدل قائمًا حول كيفية إدارة هذا الملف مستقبلاً، وضرورة إشراك المجتمع الثقافي بشكل أوسع، لضمان تحقيق التوازن بين التنمية العمرانية والحفاظ على الذاكرة الثقافية المصرية، دون أن يشعر الرأي العام بأن رموزه تُنقل أو تُغيَّب بعيدًا عن سياقها التاريخي.



