مستقبل الدولة الوطنية

بوصفى واحدا من كتابها منذ عام 2008 شاركت مؤخرا فى أعمال المنتدى الثامن لصحيفة «الاتحاد» الإماراتية، وهو تقليد درجت عليه الجريدة فى سنواتها الأخيرة، حيث تجمع كتابها فى مكان واحد ليتداولوا الرأى حول موضوع واحد، يكون مهما وملحا ومؤثرا فى المشهد العربى بشكل عام.
وكان موضوع المنتدى الأخير عن «مستقبل الدولة الوطنية فى العالم العربى» وهو عنوان ربما فرضته ظروف فارقة خلفها وصول تنظيم الإخوان إلى الحكم فى مصر ثم سقوطه، واستمراره فى السلطة بتونس، وتصاعد نفوذه فى ليبيا، ورغبته فى أن يحول الثورة السورية إلى فرصة لاقتناص السلطة هناك أيضا. فمن المعروف أن أفكار هذا التنظيم تعتبر أن كل دولة مجرد سكن لا وطن، ومكان ممر لا مكان مقر، لأنهم يتحدثون عن استعادة الإمبراطورية التى قامت من غانا إلى فرغانة، لتسيح الحدود والسدود، ويحكمها إخوانى يقيم فى أى مكان على هذه البقعة الجغرافية مترامية الأطراف. وفضلا عن أن هذا النظام أو الترتيب الإدارى التاريخى كان مجرد اجتهاد ابن زمنه وليس فرضا مقدسا فإن الإخوان ليسوا جادين فى استعادة قيم الماضى وفحواها من القوة والعزة والهيبة والإنجاز إنما فقط يريدون أن يستعملوا هذا الحنين التاريخى لدى قطاعات عريضة من الناس فى خدمة مشروعهم الذى يرمى إلى اقتناص السلطة فى كل بلد عربى وإسلامى، ثم تطبيق أفكارهم هم التى يزعمون أنها تمثل المسار الإسلامى الوحيد الآن، وأن كل ما عداها من أطروحات واجتهادات ومسارات فى الساحة الدينية باطل. كما أن عوامل عديدة شجعت على اختيار هذا الموضوع الآن، منها اهتزاز التجارب الوحدوية فى بعض البلدان العربية، مثلما هو حادث فى اليمن حاليا، وكذلك احتمالات تفتت دول عربية إلى كيانات أصغر، كحالة العراق وسوريا وليبيا، والسودان الذى انقسم بالفعل إلى دولتين والأمر قد يكون مرشحا لمزيد من الانقسام فى المستقبل المنظور. ومنها أيضا الدول التى تواجه صعوبات فى تحقيق الاندماج الطوعى بين العناصر التى تشكل القوام الرئيسى لقوتها البشرية، والتى تتوزع على انتماءات عرقية ودينية ومذهبية وجهوية وطبقية. وهذا الاندماج لن يتحقق على الوجه الأكمل إلا بإطار عادل، يساوى بين المواطنين فى الحقوق والواجبات، ويرفع مبدأ «الاستحقاق والجدارة» أساسا لحيازة المواقع والمناصب والمكاسب داخل الدولة، ويجعل القانون، بقواعده العامة المجردة، حكما بين الكل من دون تفرقة، وينحاز إلى مدنية الحكم وبناء الدولة الديمقراطية الحديثة.
وهناك أيضا التحدى الذى تواجهه «سيادة الدولة» مفهوما ووضعا وواقعا، فى ظل معطيات العولمة التى أذابت الكثير من القيود والحدود والسدود.
وقد تكون الدولة، بصيغتها الحالية، هى الشكل الاجتماعى أو الوحدة الإدارية الكبيرة التى توصلت إليه البشرية بعد طول تجريب، انتقل من القبيلة إلى الإمبراطورية، ثم بدأت «الدولة القومية» تأخذ طريقها إلى الوجود فى القرن السابع عشر بأوروبا، وتصنع لنفسها علما ونشيدا ودستورا وقوانين، وتضع لتلاميذها مناهج تعليم. وهى قد تدخل فى تنسيق مع غيرها من الدول، جيران لها أو بعيدين عنها، وفى بعض الأحيان يصل هذا التنسيق إلى درجة غاية فى الترابط والتماسك، لكنه لا يلغى «الوحدات الاجتماعية» الأصلية التى قام على أساسها وهى «الدول الوطنية».
وتم توزيع الأوراق البحثية على خمسة محاور أساسية أولها عنوانه: «الدولة الوطنية... المفهوم والأسس»، وعرضت فيه ثلاثة أوراق عن «مفهوم الوطنية ودلائل الانتماء للوطن»، و«الدولة الوطنية فى زمن التحولات» و«آليات تحقيق التكامل الوطنى. والثانى يناقش التحديات التى تواجه الدولة الوطنية من خلال طرح بعض الرؤى وتقديم بعض التجارب، وعرضت فيه ثلاث أوراق أخرى عن «عوامل تفتيت أسس التكامل» و«تجارب عربية فى اهتزاز التكامل الوطن» و«أثر التدخلات الخارجية فى هدم التكامل الوطن». أما الثالث فيبحث فى تأثير النزعة الأممية للإسلام السياسى على الدولة الوطنية، ونوقشت فيه ثلاثة أوراق أخرى عن «الإسلام السياسى والدولة المدنية» و«خطر الطائفية على الدولة الوطنية» و«فكرة الخلافة كأداة للقفز على البعد الوطنى». والمحور الرابع جاء ليتناول محددات التكامل الوطنى وسياقاته، وفيه عرضت ثلاثة أوراق أيضا عن «محددات التكامل فى الدولة الوطنية» و«تأثير النشأة على أسس التكامل» و«الدور الثقافى فى تعزيز التكامل الوطنى». أما الخامس والأخير فأخذ عنوان: آليات وإجراءات تعزيز التكامل الوطنى، وعرضت فيه ورقتان عن «التنمية الشاملة والمستدامة كمنهج لصيانة التكامل» و«دور التنشئة السياسية فى تعزيز المواطنة».
وقد روعى فى تفصيل وتوزيع الموضوع أن يشمل ثلاثة مسارات أساسية على النحو التالى:
1 ــ إطار نظرى يقدم تعريفا دقيقا لمفهوم الدولة الوطنية ومحدداته والتحديات التى تواجهها، داخلية كانت أو خارجية. وفى ركاب هذا تم التطرق إلى مفاهيم من قبيل الانتماء والولاء والمواطنة وغيرها.
2 ـــ تجارب تطبيقية أو ميدانية للاستدلال على المقولات النظرية، وإعطائها عمقا وتبريرا علميا من خلال النزول من التنظير إلى التفاعل مع الواقع المعيش.
3 ـــ معالجة إحاطية للموضوع بفحص مختلف جوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية، عكسها تنوع الخلفيات المعرفية والخبرات الحياتية للكتاب والباحثين الذين تصدوا لكتابة الأوراق أو التعقيب عليها، وهم من كتاب جريدة «الاتحاد».
4ـ عدم الاكتفاء بتشخيص المشكلة إنما طرح سبل أو وسائل حلها والتعامل معها، من خلال تقديم خلاصات ومقترحات وتوصيات.
نقلا عن المصرى اليوم