مكانة العمل في الإسلام

احترم الإسلام العمل وأعلي من شأن العاملين، وأمر بمزاولة الأعمال المختلفة التي من شأنها تحقيق النفع للعامل والمستعمِل، وجاءت نصوص الشرع آمرة بالعمل وحاضة عليه في كثير من المواضع, قال الحق سبحانه: "وقل اعملوا فسيري الله عملكم ورسوله والمؤمنون".
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلاً فيسأله أعطاه أو منعه"، وقال: "على كل مسلم صدقة قَالوا: يا نبي الله فمن لم يجد؟ قَالَ: يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، قَالوا: فإن لم يجد؟ قَال: يعين ذا الحاجة الملهوف، قَالوا: فإن لم يجد؟ قَالَ: فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشّر فإنها له صدقة".
وهذا يدل علي أن العمل بمجرده صدقة, إن لم يجد العامل ما يتصدق به من ناتج عمله, كما بينت نصوص الشرع أن العمل مكفر للذنوب, وروي عنه قال: "من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفوراً له"، (ومعني: كالا: أي متعبا), وقال: "خير الكسب كسب يد العامل إذا نصح".
وهذه النصوص الشرعية تربط كلها بين العمل بنصح وجهد وإخلاص، وبين مغفرة الله تعالي ورضوانه، وهكذا حين يرتبط مفهوم العمل والإنتاج في الإسلام بهذه المعاني السامية، فإن شأن العمل والإنتاج لا يقتصر حينئذ في مفهوم الناس على مجرد القيام بعمل مادي للحصول على أجر معين، بل يصبح العمل والإنتاج حينئذ قياماً بالواجب لمصلحة الفرد والجماعة.
كما يصبح حافز العمل والإنتاج في نفس الفرد طاقةً لا حدود لها يبدو أثرها في إقبال الفرد على عمله برغبة وارتياح, بحسبانه سببا لمرضاة الله تعالي علي العامل، ومغفرة له من ذنوبه، وقربي يتقرب بها إلي ربه إن أخلص في عمله وأتقنه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحض الناس علي العمل.
ويبين لهم الوسائل العملية لممارسة الأعمال المختلفة, فقد روي عن أنس "إن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله, فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ائتني بهما, فأتاه بهما, فأخذهما بيده وقال: من يشتري هذين, قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، فقال صلى الله عليه وسلم: من يزيد على درهم, مرتين أو ثلاثا ؟, قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين, فأعطاهما إياه, وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري، وقال: اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك, واشتر بالآخر قدوما فأتني به, فأتاه به, فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده، ثم قال له: اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما, فذهب الرجل يحتطب ويبيع, فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة.
إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع"، (والحلس هو: كساءٌ يكونُ على ظَهْر البعير تحت الَبْرذَعة, ويُبْسَط في البيت تحت حُرِّ الثياب, والقعب هو: القدح الضخم الغليظ)، وكل عمل مشروع يعود بالنفع علي العامل وعلي المنتفعين بعمله يحض الشرع علي القيام به وامتهانه، لا فرق في هذا بين عمل رفيع أو غيره.
ولا يغضي من قيمة العامل وعمله أن كان العمل يزور عنه الكثيرون سواء فيما سبق أو في زماننا، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل قبل بعثته في رعي غنم أهل مكة, كما عمل بالتجارة, فلما بعث لم ينكر هذين العملين, فقد قال: "ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم, فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة" (والقراريط: جمع القيراط وهو: نصف عشر الدينار) وهذا يدل علي قلة ما كان يأخذه النبي صلى الله عليه وسلم مقابل رعيه غنم أهل مكة, وقد كانت أمهات المؤمنين يعملن أعمالا عدة.
فقد كانت زينب بنت جحش تصبغ ثيابها بنفسها, وتعالج بيديها دباغة الجلد, ولا تجد في ذلك حرجا، وكان الصحابة يؤجرون أنفسهم في الأعمال المختلفة، فكان منهم الفلاحون والحراثون والبناءون وغيرهم، وقد نُسب كثير من السلف إلي المهن التي كانوا يمتهنونها أو يمتهنها ذووهم: كالخصاف والجصاص والماوردي والخوَّاص والآجري والعلاف، وإذا كان الإسلام يعلي من شأن العمل النافع والعاملين فيه، فلا ينبغي أن يحول دون الإقبال علي امتهان مهنة معينة.
نظرة المجتمعات من قبل ومن بعد لها, فإن الأعراف والقيم المرتبطة بها تتغير بتغير الزمان وثقافة المجتمعات، أما الذي لا يعتريه التغير فهو قيم الإسلام الراسخة، التي منها احترام العمل إن كان مشروعا وفقا لميزان الشرع، ولا يضر نوعه أو نظرة المجتمع له أو العائد المتحصل منه, فهذه المتغيرات لا ينبغي أن تصد عن الامتثال لما أمر الشارع به بإطلاق في الآية الكريمة: "وقل اعملوا فسيري الله عملكم ورسوله والمؤمنون".