كم أنت عظيم يا أبي

تختلف البشرية في كل شيء، ويتصارع دوما الكثيرون، فتجد اصطدام هنا، وآخر هناك، ونزاع على هذا واقتتال على ذاك، يحاول الجميع إثبات إن وجهات نظرهم وتوجهاتهم الخاصة هي فقط الصحيحة، ورغم ذلك الاختلاف الشنيع، إلا أن هناك شيئا وحيدا اجتمع الجميع عليه ولم يختلفوا، بل ويعتبر حتى الآن هو الحقيقة الوحيدة المسلم بها، إنه الموت.
لن أسترسل في الحديث عنه، فللأسف وجهات نظرنا تجاه الموت ليس سوية بالشكل الصحيح، فمجرد ذكره بمقال كهذا قد يدفع العديد لعدم استكمال القراءة، فنحن اعتدنا على الخوف منه "اللهم اجعله خير"، وذلك على الرغم من أن الموت ما هو هو إلا "خطوة تجاه الله"، وذلك خلاف أن كل منا له تجاربه معه.
أما أنا وإن كانت تجاربي معه قليلة من حيث العدد إلا إنها قوية من حيث المفعول، فقد اختبرته في شخص لا أعز لدي منه، "أوسط العقد" أي أهم شيء به، فمن يرتدي العقد برقبته يرتديه من أجل إظهار أوسطه "الدلاية" وبالفعل اختار الموت أن يختبرني بدلايتي، ففي نفس اليوم 27 ديسمبر منذ خمس سنوات اقتص من حياتي روحها، وقصف أهم نبتة بها، داس بنعاله على زنبقتي التي كنت ولازلت، أجتهد من أجل رييها، اختار أبي!
أعتذر لك عزيزي القارئ عن التطرق بالمقال لموضوع خاص بي، ولكن هناك أشخاصا يعيشون بالأرض ويرحلون دون أن نشعر بهم، ودن أن نعطيهم القليل من حقهم، بل وبالأحرى لا نذكرهم نهائيا، وأبي للأسف لو لم أذكره سيصبح هكذا، ولكنه لا يستحق ذلك، إنه بالفعل رجل عظيم "وليس كونه أبي"، لكن لكونه بالفعل كذلك، فمن يكد ويكدح ويعمل ليل نهار من أجل زوجته وأبنائه ومن أجل تربيتهم تربية صحيحة بمنطقة من أسوا مناطق القاهرة، فهو عظيم، ومن يسعي لتعليم أبنائه الـ6 "وهو غير متعلم"، فهو رجل عظيم، من يتحدى الظروف والفقر والمرض بصدر رحب، شخص عظيم من يلقي علي عاتقه مسئوليه بيته عائلته متناسيا شخصه، عظيم من "رغم بساطته" يخرج للدنيا رجالا علي قدر المسئولية.
جوانب عظمية
يكفيني فخرًا أن أخبرك بأنني أكتب الآن لأنني تعلمت القراءة على يديه، وهو "أمي" فلم يكمل إلا مرحلة التعليم الابتدائي فقط، ولكنه كأن يحضر "الجورنال" يوميا إلى البيت، كان "يفك الخط" ويقول لي "إقرالي الجورنان"، كنت أقرأ وأنا خجلان فأبي لا يجيد القراءة عكس نظرائه، ولكني أدركت بعد مرور السنين بأنه كان يبنيني ويثقلني ويثقفني دون أن أدرك ذلك حينها، ولكني أكاد أجزم الآن بأن كل حرف يسقط من قلمي هو من شحنه به، كل فكرة بعقلي هو من بناها، كل نجاح أحققه هو من وضع أساسه، فكلي من فضله.
إذا أحببت الحديث عن والدي فمن المؤكد بأنه لن تسعفني صفحات مئات الكتب، لكن دعني أدعوك بنهاية مقالي بأن "تستمتع بوالدك" فأنا أتلذذ الآن حتى بارتداء ملابس والدي فقط.
أخيرا.. من المؤكد أن أبي من وجهة نظر الدنيا ليس هو أعظم أب، ولكنه عاش فقيرا ليتركنا أغنياء، غير متعلم ليتركنا ذوي علم ومعرفة، متعبا لكي نرتاح، بسيطا ليتركنا بعده أنا وأمي وأخوتي بحالة حب رائعة، عاش غير معروف لكي أصرخ بملء فمي قائلا "كم أنت عظيم يا أبي".