الرسول محرر الفن
هذا نهج آمن وضامن لسلامة المعتقد والفن معاً ؛ فلا يسمح بتسخير الفن والمبدعين والموهوبين لخدمة ومصالح دين بعينه ، فتبقى الفنون أسيرة دور العبادة ورهينة إرادات رجال الدين ، ولا يقف الفن عند حدود التوظيف الدينى والعقائدى ، بل ينطلق محرراً إلى آفاق التوظيف الإنسانى والكونى الرحب بدون صراع ولا تصادم ، بتكاملية مثمرة ومنتجة تصب فى مصلحة نفع الإنسان ، سواء من الناحية الروحية والإيمانية ، أو من ناحية إشباع التذوق بالجمال والإبداع وتغذية العقول بالمعرفة والفكر .
الرسول صلى الله عليه وسلم عند تحطيمه التمثال الوثن المعبود من دون الله ، لم يكن هذا فعلاً موجهاً ضد الفن ، إنما ضمانة أبدية ومنعاً للفن أن يوظف فى الوثنية ، أى فى غير غاياته وأهدافه ومقاصده العليا اللائقة به ، فالرسول بتحطيمه الوثن المعبود حرر الفنون من هذا التوظيف الذى يأسرها ويكبلها مدى الدهر ، ولولا هذا التحطيم الجزئى لبضعة تماثيل عُبدت من دون الله لما خرجت الفنون من بين جدران المعابد إلى آفاق الحرية الرحبة .
إشكالية المقصد والغاية هى الأساس فى الإنطلاق لذا كان هناك فارقاً ملحوظاً ودقيقاً بين تعامل الرسول مع التمثال الوثن المعبود وتعامله مع الدمى المنحوتة التى كانت تلعب بها أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها ، ومع ذلك التمثال الذى كان بالبيت – وكان بلا رأس – وفى إقراره صلى الله عليه وسلم لوجود ستر فى المنزل مع تحويله عن مكان الصلاة ، وتعامل بالقبول مع تصاوير على الوسائد ، فالغايات والمقاصد هنا إبداعية جمالية ذوقية ، والغايات والمقاصد هناك وثنية إشراكية .
كل إبداع وفن لا يدعو لوثنية ولا لإباحية فهو مباح ومطلوب ضرورى لنفع الإنسان ، والرسول صلى الله عليه وسلم أقر إقتناء لعب البنات وهى تماثيل منحوتة صغيرة لأن الغاية منها اللعب والتربية والتثقيف ، والنبى صلى الله عليه وسلم – كما فى صحيح البخارى – " خط خطاً مربعاً ، وخط خطاً فى الوسط خارجاً منه ، وخط خططاً صغاراً إلى هذا الذى فى الوسط من جانبه الذى فى الوسط ، وقال : هذا الإنسان وهذا أجله محيط به أو قد أحاط به ، وهذا الذى خارج أمله وهذه الخطط الصغار الأعراض ، فان أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا " ، وهذه الرسوم التوضيحية إيذان مبكر بإنفتاح الإسلام على وسائل الفنون والإبداع المختلفة لتوظيفها فى عرض الأفكار وشرح المعانى القيمية العميقة المطلقة من خلال تجسيدها وتمثيلها فنياً ، وتلك الخطوط مع ما صنعه الرسول مع رأس التمثال بالمنزل حيث أبقى على الجسد المنحوت شواهد محددة لضوابط منهجية فى إستخدام الفنون فى التعبير بأسلوب جانح للتجريد والترميز المبدع الشاغل للخيال المحفز للعصف الذهنى .. لا للتجسيد والطرح المباشر التقليدى .
الرسول هو من حرر الفن من أسر رجال الدين ومن أسر التقليد والسطحية .