قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

المثقف الكهنوتي


حين يمارس "المثقف" سطوته على عقلية ومزاج المتلقي ، بدعوى أنه هو وحده الذي يقدم له الحقيقة ويكشف له غموضها وهو وحده القادر على إزالة الإلتباس المتكلس في عقله نتيجة اختلاط الحق بالباطل لديه ، وهو وحده القادر على فك الرموز والشفرات بما أوتي من معرفه وحكمة .. فنحن إذًا أمام "مثقف كهنوتي" على حد تعبير الكاتب الكبير الراحل صلاح حافظ .. والكاتب أو المثقف الكهنوتي هذا، هو الأديب الذي يتقمص دور الفلاح أو العامل حين يكتب عنهم ، وهو ليس منهم في شيء، وهو السياسي المتعالي الذي يفتح لنا طريقًا للخلاص من بين سبل شتى بينما يغلق كل طريق سواه، هو رجل الدولة الذي يعرف ما لا يعرفه الناس في مراتبهم الأدنى فهو حين يتكلم يقدم حقائق لا آراء ، وهو الحقوقي الذي اتشح ثوب العدالة المطلقة فظن أنه ظل الله في الأرض !.

هذا المثقف الكهنوتي هو نفسه الذي يحدثنا الآن عن الحرية بينما يقيدنا هو بأفكاره ، وهو المجدد الذي يصطف مع أصحاب المدرسة التقليديه الأصوليه أنفسهم وهو يمارس كسر التابوهات ورفض المسلمات.

وهو الليبرالي المنحاز للحريات بينما يرفض وبقوة كل صوت يعارض رؤيته هو للحرية، بل هو رجل الدين الذي إذا تكلم يشعرك بأنه ينطق بمراد الله وإرادته وكأنما أوتي سرًا من أسرار الملأ الأعلى أو حيزت له الفتوحات الربانية كما تؤتى لنبي أو لعارف.

في رأيي – إن هذا النوع من المثقفين يخون ثقافته، ويخون علمه ، لأن الثقافة فضاء فسيح يتسع لكل الرؤى وكل التيارات الفكرية المتباينة، وهو المجال الوحيد الذي تُنتج فيه الأفكار وتتوالد فيه المعارف بلا قيود ، ولا سبيل لها أن تكون إلا في مناخ رافض للانحياز، عصي على الأدلجة.

هذا المناخ الرديء الذي نعيش فيه الآن هو مناخ كهنوتي بإمتياز ، يصادر على الإبداع والنقاش وحرية الرأي والاختيار الحر ، مناخ لا يُنتِج إلا التطرف والسطحيه ، وهو الحال الذي نرى عليه الكثيرين ممن يسمون أنفسهم " بالنخبة" ، فلا لغة ولا بيان ولا معنى لمقال ، مزجٌ بين الجهل والإستعلاء ، فكل الدروب سواء ، كلها تفضي إلى مزيد من التخبط وانعدام الأمل في مستقبل مشرق لثقافة حقيقية ومثقفين أحرار.

كثير من المصطلحات والمعاني والتعاريف تم اغتيالها لصالح هذا المنهج الكهنوتي ، فالشيوعية كفر، والرأسماليه سرقة للشعوب الفقيره ، والعلمانيه إنكار لوجود الله ، ونقد العقل العربي ترف، ومناقشة الموروث رده ، هكذا ببساطة يمكن أن تنتهي الأمور. فكلما علا صوتك زاد قدرك ، وكلما خُصِصَت لك مساحة أكثر بهاء كنت الأوفر حظًا في الوصول إلى الناس. لايهم ماذا قدمت أو ماذا ستقدم .المهم أن تبدو أكثر بهاءً وأضخم صوتًا ولتذهب المعرفة الحقيقيه إلى الجحيم .

منذ مايقارب المائة وعشر سنوات كانت هناك مناظرة فكريه شهيره بين الصديقين الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصريه وبين المفكر اللبناني المخضرم فرح أنطون صاحب مجلة الجامعة في الاسكندريه ، هذا الجدال الثقافي كان ينقاش مسائل دينية ( إسلامية - مسيحية) ، مجرد الحديث عنها الآن في هذا الوسط الثقافي الكهنوتي قد يثير الكثير من القلاقل والإضطرابات . هل لنا أن نتصور أنه منذ أكثر من مائة عام كان المناخ الثقافي في بلادنا يعكس حالة من الإنفتاح والتطور والرقي ويسمح بنقاشات أكثر من يومنا هذا على الرغم من أن فضاء المعلومات اليوم أصبح أكثر اتساعًا عن ذي قبل !

في كتابه " صدام الحضارات " يحدثنا الكاتب الأمريكي صامويل هنتنجتون أن الصراع المرتقب في العالم سيكون قائما في الأساس على الهويه الثقافيه ، هذا الكتاب صدر عام 1993 ، أي بعد نشر الفيلسوف والباحث الأمريكي " فوكوياما "كتابه الشهير ( نهاية التاريخ ) الذي كان يقول فيه بإنتصار الليبراليه الأمريكيه وتفوقها وأن العالم كله سوف يدخل العصر الأمريكي بما حققه المنهج الليبرالي الأمريكي من نجاح بمفهومه الشامل عن الحريه والمساواة والديمقراطية.

هي أزمة هوية ثقافيه إذًا، ليس فقط كما شرحها هنتنجتون أو وضع فلسفتها فوكوياما ، ولكن بما أكدته آلة الحرب الأمريكيه فيما بعد سواء العسكرية أو المخابراتية أو المعلوماتية. ولا يعنينا هنا أن نفند آراءهم أو نثني عليها ، ولكن أن نقف على رؤيتهم وغيرهم من أزمة الثقافه وأن نعلي من شأن هويتنا الثقافيه في مواجهة حرب الثقافات هذه ، وإن ندرك أنه لن يتأتى هذا إلا في مناخ يسمح أصلًا بوجودها ، حرة ، ديناميكية ، قادرة على التفاعل والانطلاق إلى آفاق أرحب وأغنى .

في رأيي ، لا سبيل لمواجهة تلك الأزمه الحقيقيه تحت شمس هذا الصراع المدجج بالأيديولوجيات والمفاهيم الغربيه إلا بالتحرر الكامل من سيطرة رجال الثقافة القسرية الكهنوتية على المتلقي ، وإتاحة الفرصة لنشوء تيارات فكريه مختلفه تستطيع أن ترتقي وتتطور وتتفاعل مع تيارات أخرى دونما احتكار لرأي أو طريق ، هكذا فعل الغرب كي تسود أفكاره وقيمه ، أنه هيأ مناخًا خصبًا لممارسة الفرد حريته في التفكير والإبداع ، وأعلى من شأن فريضة التفكير، وتحرر من قيد المثقف الكهنوتي، فكانت البداية، وليتنا نفعل.