ماله نجيب محفوظ ؟
قال السلفيون إن هجوم شيخهم عبد المنعم الشحات على نجيب محفوظ هو الذى حفز "العلمانيين" على اسقاطه فى الانتخابات، ولو ان هذا ليس صحيحا، الا ان وصف ماكتبه عم نجيب بـ "الدعارة" يكفى لاسقاط مائة شحات، ليس فى الانتخابات فقط، انما فى العاب الاطفال "مونوبلى"، وبنك الحظ ايضا!
قالوا ان احدا لم يتحرك، عندما هاجم العلمانيون "البخارى"، وانقلبت الدنيا، لما هاجم الشحات، نجيب محفوظ، وقالوا كلاما كثيرا، كان "فش خلق" ، وكانت مناسبة لاستخدام الفاظ "العلمانيين" واشياء من هذا القبيل.
لفظ "العلمانيين" تحول الى "بعبع" على يد اصحاب الجلابيب القصيرة، واللحى الطويلة، مع ان نشأته فى اوروبا لم تحمل صفات مشينة، فالعلمانى، هو المفكر خارج اطار الكنيسة، او هو، المتجادل، صاحب الرؤى، من غير رجال اللاهوت، او الكهنة والرهبان.
وفى اوروبا نشأ التيار العلمانى، بعد فساد استدلالات رجال الدين، وبعدما شعرت المجتمعات ان الدين الذى يسعى للتقدم، والرقى، لا يمكن ان يكون هو نفسه، الذين يطالبهم به رجال الكنيسة.
على اعتاب عصر النهضة، اكتشفت المجتمعات الاوروبية، ان الدين الذى يجب ان يستوعب علوم الفلسفة، وعلوم الجمال، والجدل فى نظريات علوم الكون، واسباب الخلق، وكيفية نشأة وتطور المجتمعات، والطرق التى تدفع بتلك المجتمعات الى تخطى عقباتها، فى الطريق للافضل، لا يمكن ان يكون هو الدين الضيق الحدقة، والملتصق القدمين، الذى يريد رجال الدين ان يسقوه لرعاياهم بالملعقة قبل الاكل وبعده.
وفى عصر النهضة، ظهرت اعظم الفنون، بعدما حرمها الكرادلة والبابوات، تقربا الى الله، وراجت حركات الادب، وادت الى صراعات فكرية، اسست لمدارس مختلفة، انتهت بما يعرف اليوم بالمدارس الكلاسيكية فى الادب العالمى.
ثم ظهرت الموسيقى، ورنت اسماء فاجنر وشتراوس، وفيفالدى، وتشايكوفسكى، وبدأت راقصات الباليه فى الطيران فوق البلاط الامبراطورى ، دون ان يمنعهن راهب، ولا ان يطلب منهن كاهن، ان يدنين عليهن من ثيابهن.. فالزمن تغير، وقد اكتشف الاوربيون ان ما كان يثير الرجال فى النساء فى العصور القديمة، اختلف عما يثيرهم فيهن الان، ضف الى ذلك ان تأمل الفنون يهذب النفس ويهذب الغرائز.
اطلق "عصر النهضة" للانسان طاقاته "الابداعية"، دون محظورات، كان رجال الدين فى الماضى يقولون انها حرمت من لدن عليم خبير.
تداعيات "النهضة" مثلا مهدت لمدارس علم النفس، فاكتشفوا امراضها، وعقدها، وبلاويها، بينما لم يعترف اباء الكنيسة بان النفس مثل غرف النوم، تحتاج الى التهوية من ان لاخر، فاحالوا عللها الى مس الجن، ووسوسة الشياطين.
لم تكن العلمانية كفرا بالدين، انما كانت احدى طرق منطقة التفكير، بفصلها بين الذى من عند الله، والذى من عند بشر، يقولون انه من عند الله، فالمفكرين العلمانيين، هم الذين طالبوا الكنيسة باعادة فهم النصوص الدينية بطريقة اوسع استيعابا للعصر والمتغيرات.
ادموند بيرك مثلا، بعد الثورة الفرنسية، هو الذى ناهض تمسك الاصوليين "السلفيين" بنفس طرق الاوائل فى فهم نصوص الكتاب المقدس، وقال ان العيب ليس فى الكتاب المقدس، انما محاولة محاكاة طريقة من سبقونا بالف عام فى التفكير، هى التى سوف تذهب بنا الى الجحيم.
فاطلقت العلمانية مثلا حرية تسجيل تراكم التجربة الانسانية بالادب، فالادبوعاء ذاكرة البشرية.. والملاحظة المهمة، ان اوروبا لم تختلف على رسومات مايكل انجلو، او اشعار اديث بياف، بقدر ما اختلفوا على تواريخ كتابة الاناجيل، وتفسيرات نصوصها، وقدر الرمز فيها بالنسبة للحقائق.
لماذا؟
لان الادباء والرسامين والفلاسفة والمناطقة لم يدعوا ان الذى يقولونه منزل من السماء، على عكس رجال الدين، والفلاسفة والمناطقة والادباء لم يلزموا المجتمعات بما الفوا وكتبوا، ولا اجبروا مواطنيهم على تعليق صورهم فى سلاسل تتدلى من اعناقهم، يقبلونها كلما المت بهم مصائب، على عكس رجال الدين.
فتح الفلاسفة، والادب فلسفة، نوافذ افكارهم امام الجميع، ولمن اراد ان ياخذ ويزيد، والزمن كفيل بالانتخاب، فلدى الدارسين للفلسفة قاعدة تؤكد ان الافكار تستمر وفق قواعد الانتخاب الطبيعى، بما يعنى ان البقاء للاصلح، على عكس الثوابت الدينية.
لم يقل الفلاسفة ان اقوالهم نزلت من السماء، لكن رجال الدين قالوا ذلك، فاشتعلت المعارك، ليس على نزولها من السماء، انما على فهم حقيقة ما نزل فعلا من السماء.
لا مجال اذا للاختلاف ولا داعى لسب نجيب محفوظ، فما عليك الا الكف عن قراءة باقى اعماله اذا لم يؤنسك، ولا مجال للمعارك والصراعات بالاسلحة الالية والكلاشينكوف، اذا راودتك افكار سيئة عن قصة مدينتين لديكنز، او الجريمة والعقاب لديستوفسكى، لانه يمكنك اخلاء مكتبتك منهم الان، وكفى، الامر مختلف بالنسبة لصحيح البخارى، ومسند ابن حنبل، والموطأ للامام مالك.
لم يقل احد ان اعمال ديستوفسكى وديكنز ونجيب محفوظ عقيدة، فى حين تدخل كتب ابن حنبل ومالك فى اطار الدين، والمعلوم منه بالضرورة، الى الحد الذى وصفت به بعض مدارس الفقه الاسلامى كتاب البخارى بـ "الاصح بعد كتاب الله"!
الخلافةمنطقى اذن فى صدقية صحيح البخارى، مع انه لا مجال لاية صراعات بالنسبة لما كتبه جارسيا ماركيز، وفى الصراع حول البخارى، مشروع التحصن بثوابت علمية يعرفها دارسو علوم الحديث، للتأكد، والتيقن، وتظل اية نتيجة مشروعة، خصوصا ان هناك من وضع فى طريقى الى الله، عبدا من عباد الله، فجعله الطريق الى الله، وان كلامه الاصح، بعد كتاب الله!
ربما اقبل محفوظ ، وارفض البخارى، فمحفوظ طريق فى الدنيا، بينما قالوا ان البخارى طريق الى الله ، ولا عرف أحد، هل يرضى الله، ان يكون البخارى، الطريق اليه؟
ما سبب هذه المعضلات المتوالية، والازمات المتكررة؟ الاجابة: السلفيون، فهم الذين احاطونا بالمحرمات، والممنوعات، وكلما زادت المحرمات ارتفع رصيد التخلف، فالتخلف، تخوف مستمر، ودائم، يتحول الى اسلوب حياة، ثم ينتهى بان يصف احدهم ادب نجيب محفوظ بالدعارة، ويصف الديمقراطية بـ "الحرام"، ثم يرفض المساس بالبخارى، مع ان كثيرا من الباحثين فى علوم الحديث، سجلوا عدة ملاحظات على كتابه الصحيح، موجودة فى كتب الحديث.
قالوا مثلا إن الإمام البخاري "انفرد بالرواية عن أربعمائة وعشرين رجلًا، تكلم فيهم بالضعف ثمانون رجلًا"، وانفرد "مسلم" بالرواية عن ستمائة وعشرين رجلًا، تكلم فيهم بالضعف مائة وستون رجلًا".
المعنى أن بعض أهل الحديث شككوا في ثمانين رجلًا من رجال أسانيد صحيح البخاري، وشككوا أيضًا في صحة أسانيد مائة وستين رجلًا من "أسانيد" الإمام مسلم.
"الإسناد" هو الطريق الموصل إلى متن الحديث أو موضوعه.. وهم الرجال الذين انتقل الحديث على ألسنتهم من عصر إلى عصر حتى وصل إلينا.
لا نعرف للآن؛ لماذا قدسنا هؤلاء إذا كان منهم "الغافل".. ومنهم "الضعيف"؟ ولا نعرف أيضًا سر سطوة كتاب مشكوك في أسانيده للحد الذي يعتبرونه الأصح بعد كتاب الله ، بينما يسبون نجيب محفوظ ؟ رحمه الله .. ماله نجيب محفوظ ؟