تبدأ الحكايات عادةً بوميض يشبه المعجزة. نظرة أولى تُربك النبض، كلمة عابرة توقظ في الداخل دفئًا لم نعرف مصدره، حضور جديد يجعل العالم أكثر إشراقًا. تلك البدايات تمتلك سحرًا خاصًا، كأنها من مادة الضوء، لا تشبه الواقع بل تتجاوزه. كل شيء يبدو أجمل، أبسط، وأقرب. نغفر بسهولة، نُدهش بسرعة، ونتعلق بتفاصيل صغيرة نعتقد أنها كفيلة بخلق الأبدية.
لكن مع مرور الوقت، تتبدّل المذاقات. يصبح الحلو عاديًا، والمثير مألوفًا، والمليء بالحياة باهتًا. لا لأن الحب نفسه انتهى، بل لأننا لم نعرف كيف نحافظ على نكهته الأصلية وسط رتابة الأيام واختباراتها. الحب لا يموت فجأة، بل يبهت شيئًا فشيئًا، مثل عطرٍ نترك غطاءه مفتوحًا، فيفقد عبيره دون أن ننتبه.
في البدايات، ننظر إلى الآخر بعيون الحلم، نرى فيه كل ما نتمناه، ونغفل عمّا لا يناسبنا. نُجمّل العيوب، ونضخّم الفضائل، ونعيش حالة من الانبهار تُغطي على كل تناقض. لكن بعد مرور الوقت، يبدأ الغشاء في التلاشي، ونرى بوضوح ما لم نكن نراه. عندها يبدأ الامتحان الحقيقي للعلاقة، فالبدايات سهلة لأنها مدفوعة بالرغبة، أما الاستمرار فيتطلب وعيًا، وصبرًا، ونضجًا، وإرادة.
يفقد الحب مذاقه عندما نكفّ عن الإنصات، عندما ننسى أن التواصل هو الجسر الذي يربط بين قلبين لا يتشابهان تمامًا. تبدأ المسافات الصغيرة بالاتساع: كلمة لم تُقل، عتاب لم يُعبّر عنه، انشغال لم يُبرّر، ومشاعر تُكبت خوفًا من الخلاف. وهكذا يتسلل الصمت إلى العلاقة، لا كراحة، بل كعلامة تعب. يصبح الحديث مجاملة، والاهتمام عادة، والدفء واجبًا. ومع الوقت، يتسلل البرود ليحتل المساحة التي كانت تمتلئ بالشغف.
هناك من يظن أن الحب يتراجع لأن الشريك تغيّر، والحقيقة أن الاثنين يتغيران، لكنهما لا يتحدثان عن هذا التغيّر. أحدهما ينتظر الآخر ليبادر، والآخر يظن أن الأول لم يعد يهتم. وبين الانتظار وسوء الظن، يضيع التواصل، ويبدأ كل طرف بالانسحاب الهادئ. لا إعلان للرحيل، بل انطفاء بطيء يشبه إغلاق الضوء غرفة بعد أخرى.
يفقد الحب مذاقه أيضًا لأننا نخلط بين الشعور بالمحبة والشعور بالراحة. في البدايات، يملأنا الحماس، فنحاول، ونسأل، ونقترب. أما بعد فترة، نطمئن لوجود الآخر، فنكفّ عن بذل الجهد. نتصور أن الحب سيكمل طريقه وحده دون رعاية، وكأن المشاعر شجرة لا تحتاج إلى الماء. لكن الحقيقة أن الحب علاقة تحتاج إلى التجديد، إلى الكلام، إلى المفاجآت الصغيرة، وإلى جرعة من الحضور الصادق.
الروتين لا يقتل الحب وحده، بل غياب الدهشة. نحن نحتاج أن نُدهش الآخر لنشعر أننا ما زلنا قادرين على إحياء ما بيننا. نحتاج أن نقول "اشتقت إليك" حتى لو كنا نراه كل يوم، أن نُعبّر عن الإعجاب بعد مرور السنين، أن نحافظ على مساحة خفيفة من الغموض الجميل الذي يجعل اللقاء له طعم خاص.
الذين يحافظون على مذاق الحب ليسوا أولئك الذين لا يختلفون أبدًا، بل من يعرفون كيف يختلفون دون أن يجرحوا، وكيف يعتذرون دون كبرياء، وكيف يرممون ما تكسر دون أن يذكّر أحدهما الآخر بالخطأ. فالعلاقات الطويلة ليست التي تخلو من الأزمات، بل التي تعلمت أن تعبرها دون أن تفقد المعنى.
ومع ذلك، هناك حب يفقد مذاقه لأن أحد الطرفين أحبّ بفائضٍ من الحلم، بينما أحبّ الآخر بواقعية مفرطة. هذا الاختلال في ميزان العاطفة يجعل أحدهما يفيض انتظارًا، والآخر يفيض فتورًا. الأول يبحث عن الشعور ذاته في تفاصيل صغيرة، والثاني يشعر بالإشباع من مجرد الوجود. ومع الوقت، يتحول الحب إلى علاقة غير متكافئة، فيها طرف يُعطي أكثر مما يُحتمل، وآخر يأخذ أكثر مما يحتاج.
لكن الحب لا يُولد ليذبل، بل ليُنمّى. يفقد مذاقه عندما نُهمل رعايته، كما نفعل بأشياء كثيرة اعتدنا وجودها. نحب البدايات لأنها تلمس فينا الأمل، ونخشى الاستمرار لأنها تكشف حقيقتنا. فالحب الحقيقي لا يُختبر في لحظات الشغف الأولى، بل في قدرتنا على أن نُعيد اختراعه بعد كل فتور، وأن نحافظ على صدقه بعد كل خيبة، وأن نراه في ملامح التعب كما رأيناه في وهج البدايات.
كل علاقة تمرّ بهذه الدوائر: انبهار، استقرار، فتور، ثم اختيار. والاختيار هو النقطة التي تحدد مصيرها، فإما أن نقرر أن نكمل بوعي، أو نتركها تتآكل بالصمت والاعتياد. الحب ليس وعدًا بالاستمرار، بل مسؤولية الحفاظ على المعنى رغم كل ما يتغير.
في النهاية، يفقد الحب مذاقه عندما ننسى أن وجود الآخر هدية لا ضمان لها، وعندما نكف عن رؤيته كقيمة في حياتنا. فالحب لا يبهت لأن الأيام تطول، بل لأننا نتوقف عن تذوقها معًا.
ولعل السر كله في أن نفهم أن البدايات ليست الأجمل لأنها الأولى، بل لأنها كانت صادقة الحضور. فكلما عدنا إلى الصدق ذاته، إلى الشغف البسيط الذي جعلنا نختار، استعاد الحب مذاقه القديم من جديد. فالمذاق لا يفقد، لكنه ينتظر من يعيد اكتشافه.