عمرو على محمود يكتب: عندما لم تغرق تيتانيك

حتى الله لا يستطيع أن يغرق هذة السفينة ، كانت هذه أخر كلمات أحد طاقم السفينة الأسطورية تيتانيك قبل إبحارها في رحلتها الأولى والأخيرة في 10 إبريل 1912 وترقب العالم وقتها بلهفة ذلك الحدث التاريخي ، وهو قيام السفينة تيتانك بأولى رحلاتها عبر المحيط الأطلنطي من إنجلترا إلى الولايات المتحدة .
لم تكن السفينة شيئا هينا في ذلك الوقت بعد حملة الدعاية الكبيرة التي قامت حولها من كل جانب ، فقد أشادت الصحف كثيرا بذلك الإنجاز الرائع الذي حققه الإنسان وعبرت عنه تلك السفينة العملاقة التي قيل عنها أنها " لا تغرق" فعلى رصيف ميناء كوين ستون بإنجلترا كان الأحتفال بالغ بهذا الحدث الكبير ، فاصطف آلالاف الناس من المودعين وغير المودعين يتأملون ، بإعجاب السفينة العملاقة وهي راسية في الميناء في قوة وشموخ ، والمسافرون - وهم يتجهون إليها - في سعادة وكبرياء.
ولا شك أن الكثيرين منهم كان يتمنى في قرارة نفسه ، لو يكون له مكان على ظهر السفينة ، ولو لأي بلد في العالم وجاء الموعد المحدد لبدء الرحلة ، فارتفعت الأعلام ، وبدأت فرق الموسيقى،المحتشدة على رصيف الميناء ، تعزف موسيقاها الجميلة المرحة وسط هتاف المودعين والمسافرين ، وبدأ صوت المحرك يعلو ويعلو حنى أخذت السفينة تيتانك تتحرك لتبدأ أولى رحلاتها وسط هذا الاحتفال البهيج.
القبطان الشهير والمخضرم أ.ج. سميث، قبطان "التيتانيك" الممتلئ بالفخر لخبرته السابقة وتاريخه المشرف كتب في مذكراته مادحا نفسه " في حياتي العملية كلها، لم أتعرض لاي حادث من النوع الذي يستحق الذكر. في جميع السنوات التي امضيتها في البحر لم ارَ سوى سفينة واحدة تطلب الاغاثة. لم ارَ في حياتي حطاما ولا اصبحت حطاما ولا دخلت ازمة من اي نوع يمكن ان تنتهي الى كارثة "- القبطان كان واثقا من نفسه للغاية .
في 14 إبريل 1912 وهو اليوم الخامس من رحلة السفينة بدأت المخاطر تتربص بالسفينة العملاقة ومن عليها من سادة القوم
فمنذ ظهيرة ذلك اليوم حتى اخره ، تلقت حجرة اللاسلكي بالسفينة رسائل عديدة من بعض السفن المارة بالمحيط ومن وحدات الحرس البحري تشير إلى اقتراب السفينة من الدخول في منطقة مياه جليدية مقابلة للساحل الشرقي لكندا .
وعلى الرغم من هذه الرسائل العديدة التي تلقتها السفينة ، لم يبد أحد من طاقمها ، وعلى الأخص كابتن سميث ، أي اهتمام.حتى أن عامل اللاسلكي قد تلقى بعض الرسائل ولم يقم بإبلاغها إلى طاقم السفينة لعدم اكتراثهم بها – دخل مساعد صغير يومها للقبطان محذرا أن الرحلة ربما تمر بمشاكل رغم صنع السفينة المعجز وأن مساعدي القبطان ربما ملئهم الغرور بعدما شاهدوا الاف البشر متحملقين حول الإنجاز الأكبر وأنه ربما لا يعيرون لغير أصواتهم " فر يدريك فليت يا سيدي المسئول عن مراقبة السفينة خبرته قليلة ويبدوا واثقا أكثر من اللازم ونحن ندخل منطقة خطيرة " قالها المساعد البسيط وهو يراقب القبطان الواثق من نفسه وهو يشرب فنجان قهوته المحلاه فعلاوة على اعتقاده ، من خبرته السابقة ، بندرة تكون الجليد في هذه المنطقة من المحيط في شهر أبريل، فقد كان على ثقة بالغة بسفينتهم العملاقة تايتانك ، فقد كانت تبدوا له اكبر من أن يعترض شيئا طريقها ..فما باله يعبئ ببعض قطع من الجليد ؟؟؟؟
وهل سيستمع القبطان لصوت مساعد صغير قلق طمأنه مودعا أن كل شئ على ما يرام وأن " الرحلة " ستمر بسلام وأنهم سيصلون وجهتهم منتصرين وأبواق النصر والإحتفالات ستدوى عند خط النهاية وأفل القبطان الى قمرته لينام مطمئنا الى نجاحه وقدرة سفينته على مقارعة كل السفن والإنتصار في سباق الأقوى والأسرع والأنجح .
بينما خرج جوني المساعد الصغير الى سطح السفينة قلقا وهو يشاهد فريدريك السكير يجلس في مقدمة السفينة غير عابئ بما يحدث حوله ملتفا حوله المنتفعون من أزلامه يسكبون له الخمر ليسكروه مادحين في قيادته وثقة القبطان فيه – ليهمس بحار في أذنه بأنه أفضل من القبطان نفسه وأنه يرى ما لا يراه فيضحك مراقب السفينة ويلقى له بقطعة ذهبية وكأن كلامه الخادع أسكره أكثر من كأس الخمر الذي يتجرعه غرورا – "ولم لا – أناأفضل من سميث القبطان – هو ينام وأنا أدير السفينة بالتأكيد أفضل منه " يقولها فريدريك المخدوع سكرا بغير علم وهو يلوح بكأسه في الهواء وأتباعه يتراقصون حوله إبتغاءا لقطع من ذهبه البراق .
وفى حوالي منتصف نفس هذه الليلة ، وبينما فليت ـــ مراقب السفينة ـــ يتناول بعض المشروبات الدافئة لعلها تزيل عنه البرد القارص في هذا الوقت، فجأة رأى فليت خيالا مظلما يقع مباشرة في طريق السفينة ، وفي ثوان معدودات بدأ هذا الخيال يزداد بشكل ملحوظ حتى تمكن فليت من تحديده ..إنه جبـل جليدي،
فقام فليت بسرعة بإطلاق جرس الإنذار عدة مرات لإيقاظ طاقم السفينة، كما قام بالاتصال بالضابط
المناوب واخبره بوجود جبل من الثلج يقع مباشرة في اتجاه السفينة ،حيث قام بسرعة وأمر بتغير اتجاه السفينة ثم بإيقاف المحركات .
ولكن لم يكن هناك أي فرصة لتجنب الاصطدام ، فارتطم جبل الثلج بجانب السفينة.
قفز جوني الصغير وهو يصيح " لقد حدث ما كنت أخشاه " مسرعا الى قاع السفينة ليجد الماء يتدفق الى غرفة المحركات " إنها النهاية إذا ، حتى لو لم يشعر بها ركاب السفينة " لم يشعر معظم ركاب السفينة بان سفينتهم العملاقة قد اصطدمت بأي شئ ، فإلى جانب أن التصادم كان غير مسموعا بدرجة كافية ، كان معظم المسافرين داخل حجراتهم .
في هذه الليلة الباردة بل أن الكثيرين منهم كانوا قد استغرقوا قي النوم ، فلم يكن مستيقظا في ذلك الوقت سوى بعض الرجال الذين كانوا يدخنون السيجار في الغرفة الخاصة لذلك من الدرجة الأولى ، بعد تناولهم العشاء وبعد انصراف زوجاتهم إلى حجرات النوم ، ولم يكن صوت هذا التصادم مسموعا لهم ألا بدرجة خافته ، فقام اثنان منهم واتجها إلى ظهر السفينة لمعرفة سبب هذا الصوت الخافت ، وتبعهما بعد ذلك آخرون وآخرون ، ومن الغريب انهم جميعا لم يبدوا أي اهتمام ، فلم يبالوا إلا بمشاهدة جبل الثلج والقطع المتناثرة منه على ظهر السفينة ، ثم عادوا جميعا بعد ذلك لما كانوا فيه ، فمنهم من عاد ليكمل لعبته المسلية ، ومنهم من عاد لتدخين السيجار وتتناول المشروبات ، كما دخل بعضهم حجراتهم الخاصة ليخلدوا للنوم !
كذلك عبر بعض المارين بالسفينة في ذلك الوقت عن إحساسهم بهذا التصادم بصور مختلفة ، فقال بعضهم : ( انه كان يبدو كما لو كانت السفينة مرت على ارض من المرمر ) ! ، وهو تشبيه ملائم تماما لتلك الطبقة الأرستقراطية ، كما ذكر آخرون : ( انه كان يبدو كالصوت الصادر عن تمزيق قطعة قماش)
كذلك ذكر أحد الظباط على السفينة والذي كان نائما بحجرته في ذلك الوقت : أن كل ما أحس به هو حدوث اهتزاز بسيط بجدار السفينة ، مما اقلق نومه ، لكنه عاد للنوم مرة أخرى ، بعد أن تبادر إلى ذهنه أن السفينة قد غيرت من اتجاهها بطريقة غير لائقة ؟؟؟
جوني الذي أسرع لغرفة القبطان سميث يخبره بالكارثة شاهد قبطانه يستيقظ على كابوس مزعج ، من يظن أن " السفينة " التي إنطلقت كي تربح السباق تغرق الان ، من يقول أن القبطان القدير والذي لم ترى عينه سوى النجاحات يرى سفينته تغرق ، "هل الوقت كافي لإنقاذ الوضع يا جوني " القبطان ينظر لجوني المخلص الذي قال " أنا معك يا قبطاني ، المهم إنقاذ الركاب الذين لا يشعرون " لم يحاول كابتن سميث تفسير ما حدث ، لكنه تصرف بطريقة عمليه فأعطى أوامره في الحال بإيقاظ جميع الركاب لإخلاء السفينة وإعداد قوارب النجاة ، كما أمر بإرسال نداء الإغاثة ، وكانت هذه الحقيقة غائبة تماما عن ركاب السفينة ، الذين خرجوا من حجراتهم إلى ظهر السفينة في هدوء تام وعدم اكتراث ، بل أن بعضهم خرج يغني ويمزح ،وكأنهم يسخرون من هذا الموقف ، فهم لا يزالون يعتقدون انهم على ظهر السفينة العملاقة التي لا يمكن أن تغرق .
ركاب السفينة والذين ظهر بعضهم بثياب النوم يرتدون سترات النجاة ، ثم اخذوا يصعدون قوارب النجاة تحت تعليمات كابتن سميث ، الذي أمر بإخلاء السفينة من النساء والأطفال أولا ، على أن يذهب الرجال بعد ذلك إلى قوارب النجاة إذا توفر لهم أماكن بها .
وفي الحقيقة أن بعض الركاب لم يكن يريد الدخول إلى قوارب النجاة ، فكانت السفينة العملاقة لا تزال مطمئنة بالنسبة لهم عن قوارب النجاة الصغيرة ، حتى أن بعض البحارة قد اخذ يزج بعضا منهم إلى القوارب ، فقد كانوا مدركين تماما للكارثة التي تنتظرهم ، كما اضطر البحارة أمام رفض بعض الركاب إلى إنزال بعض قوارب النجاة إلى المياه وهي غير ممتلئة عن آخرها ، فلم يكن هناك أي وقت للتأخير والمماطلة .وكان ركاب الدرجة الثالثة من الفقراء هم آخر من وصل إلى قوارب النجاة حيث يقيمون بالحجرات السفلى من السفينة ، بل أن بعضهم ظل منتظرا بأسفل السفينة لا يدري ماذا يفعل ، على رغم علمهم بوجود محنة على ظهر سفينتهم .
" أين فريدريك – مراقب السفينة " قالها القبطان سميث" باحثا بين الوجوه الباقية بجانبه والموسيقى تعزف موسيقاها الحزينة الأخيرة ، جون الصغير تشبث بيد قبطانه وقال بلهجة حاسمة " لقد غادر يا سيدي في مركب الإنقاذ الأول ، لقد غادر السفينة وهو الذي أغرقها " .
تيتانيك الحزينة وهي تراقب مراكب الإنقاذ القليلة تبحر بالناجين منها مبتعدة عن مصير الغرق مع السفينة التي صنعت كي لا تغرق ، أن تفوز وتصبح الأولى في السباق ، تسمع صوت ينادي من بعيد القبطان تركنا وغادر مع طاقمه ، يصرخ جوني الصغير" لا تخافوا لن يهرب القبطان ويتركنا. فسألوه من أين أتيت بهذه الثقة في القبطان. فقال لهم القبطان أبى وانأ معكم على ظهر السفينة ولا أظن انه سيتركني اهلك وينجو بحياته . " إبتسم سميث القبطان وهو يربت على يد جوني " أنا لا أترك سفينتي أبدا " .
في نفس الوقت بدأ عامل اللاسلكي بالسفينة يرسل نداءات متكررة للإغاثة ، وان كانت بعض السفن قد التقطت هذه النداءات إلا أنها كانت لا تزال بعيدة جدا عن السفينة تيتانك ، فكانت كل هذه النداءات دون أي جدوى ، ولكن ظهر للسفينة تيتانك أمل جديد، فعلى بعد عشرة أميال فقط كانت هناك سفينة أخرى هي السفينة كاليفورنيان – لقد إستمعت للإستغاثة وهي في الطريق ، تدوى صيحات الفرح بين البقية المتشبثة بالقبطان .
جوني الصغير ينظر في عين القبطان " مازال هناك أمل يا أبي ، أنا أثق بك