الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

إستراتيجية السيسي وسد النهضة


إذا أردت أن تعرف كيف حول الرئيس، عبد الفتاح السيسي، سد النهضة ، من مشروع قومي للشعب الإثيوبي، إلى مشروع ذي جدوى اقتصادية محدودة للغاية ، الأمر الذي ربما يدفع برئيس الوزراء الإثيوبي الجديد، أبيي أحمد لاتخاذ قرار بعدم استكماله أو على الأقل بتقليل طاقته الكهرومائية العملاقة ، عليك متابعة حكاية السد الإثيوبي منذ البداية . 

وتبدأ الحكاية في خمسينيات القرن الماضي ، عندما أرادت الولايات المتحدة الأمريكية معاقبة الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر، لانتهاجه سياسات معادية لها بالتقرب من المعسكر السوفيتي نتيجة ضغوطها على البنك الدولي ، لمنعه من تمويل بناء السد العالي بأسوان، فبادرت أمريكا بإرسال بعثة إلى إثيوبيا مكونة من رجال جهاز المخابرات الأمريكية " سي أي إيه " و مدعمة بخبراء في المياه و الطاقة الكهرومائية من أجل إقناع إمبراطور إثيوبيا في ذلك الوقت ، هيلاسيلاسي ، ببناء سد النهضة على الحدود مع السودان ليكون بمثابة "محبس" لمنع المياه عن مصر حتى يحبط الأمريكيون بناء السد العالي من خلال تقليل كميات المياه المتدفقة من الهضبة الإثيوبية إلى مصر لمنعها من إدارة توربينات محطة الكهرباء الملحقة بالسد العالي.

لكن الظروف العالمية التي كانت قائمة في ذلك الوقت ، بوجود معسكر رأسمالي، يقابله معسكر شيوعي ، فضلا عن وقوف مصر بجانب حركات التحرر الإفريقي ، جعلت إمبراطور إثيوبيا يخشى من ردود أفعال الأفارقة تجاهه لو أنزل الضرر بمصر ، في وقت كانت تثمن فيه الشعوب الإفريقية غاليا ، موقف مصر، المؤيد لكفاحها للتخلص من الاستعمار، و نظام الفصل العنصري . وحاول بعد ذلك الإسرائيليون الضغط على الإمبراطور هيلاسيلاسي لبناء نفس السد في عهد الرئيس السادات ، لكن المشاكل الإقتصادية التي أطاحت بعرش الإمبراطور هيلاسيلاسي في انقلاب عسكري ، جعلت إثيوبيا تؤجل التفكير في بنائه . 

ومع تولي حكم إثيوبيا نظام شيوعي معادٍ لأمريكا بقيادة الكولونيل ، مانجيستو هايلا ماريام ، ماتت فكرة بناء سد النهضة الذي ظل مع ذلك يراود آمال الإسرائيليين و الأمريكيين طوال فترة حكم مبارك، بوصفه من أهم وسائل الضغط على مصر في إطار سياسة الإبقاء على مصر ضعيفة، مترنحة ، حتى يتم تجريدها من زعامتها وتأثيرها على محيطها العربي .

ومع اندلاع ثورة 25 يناير 2011 شعرت إثيوبيا للمرة الأولى بضعف الدولة المصرية فاعتبر رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل ميليس زيناوي ثم خليفته من بعده ، هايلي ماريام ديسالين ، أن الوقت قد حان لإقامة السد ، وبالفعل وضعت إثيوبيا حجر الأساس لسد النهضة في إبريل 2011، أي بعد اندلاع ثورة 25 يناير بثلاثة أشهر فقط، ثم قامت خلال حكم الإخواني ، محمد مرسي ، بتحويل مجرى النهر لإقامة جسم السد في مايو 2013 بعد أن استند زيناوي و من بعده ديسالين على تقارير و دراسات أعدها جهاز المخابرات الإسرائيلية" الموساد ".

وأكدت هذه التقارير و الدراسات التي صدرت في أعقاب ثورة 25 يناير بأن سد النهضة سيكون بمثابة قاطرة لتنمية الإقتصاد الإثيوبي . وقد بني الموساد دراسته على شقين ....الشق الأول : وهو الأهم ، استند على توقع إعتماد مصر بشكل شبه كلي على سد النهضة في التزود بالكهرباء .وقد بنى الموساد هذه الفرضية على توقعات مؤكدة بنجاح الإخوان المتأسلمين في الوصول لحكم مصر نظرا للثقافة الدينية التي كانت سائدة لدى كثير من المصريين في ذلك الوقت، وبالفعل تحقق هذا التوقع بوصول محمد مرسي للحكم . كما توقعت التقارير أن يؤدي وصول الإخوان للحكم أن تسقط مصر في براثن التقسيم الى دويلات عندما تتنازع جماعات متأسلمة جماعة الإخوان حكم مصر من السلفيين، والجهاديين، و تنظيم القاعدة، و أنصار بيت المقدس ، و داعش ، و غيرها من الجماعات الإرهابية . 

أما الفرضية الثانية التي بني عليها الموساد تقريره لإقناع كل من زيناوي و ديسالين على تبني مشروع سد النهضة هو سقوط السودان بشكل فعلي في براثن التقسيم و ما تبعه ذلك من تجريد السودان الشمالي "المسلم " من البترول لوجود معظم الثروات البترولية السودانية في دولة جنوب السودان ذات الأغلبية المسيحية .وإذا عدنا للفرضية الأولى التي بني عليها الموساد دراسته المتعلقة بسقوط الدولة الوطنية المصرية ، سنجد أن الشعب المصري نجح في إجهاض هذه الفرضية بالإطاحة بحكم الإخوان في ثورة شعبية عارمة في 30 يونيو 2013 ، ليبادر الجيش المصري بتلبية نداء الشعب و يقضي تماما على الإخوان و على الجماعات المتأسلمة التي كانت قد بدأت بالفعل مخططها لتقسيم البلاد بمنازعة الإخوان بقيادة محمد مرسي حكم مصر . 
 
ولا أدل على صحة ذلك من هجوم الجماعات الإرهابية المتأسلمة ، على الجنود المصريين في سيناء ، خلال  الإفطار في شهر رمضان عام 2012 ، ما أسفر عن مقتل 16 ضابطا مصريا و إصابة 7 آخرين . كما كان من نتيجة ثورة 30 يونيو نجاح القوات المسلحة المصرية في القضاء على الجماعات المتأسلمة التي كانت قد بدأت بالفعل في رفع أعلام داعش، و القاعدة ، و أنصار بيت المقدس، و غيرها من الجماعات الإرهابية خاصة في سيناء و على طول الحدود الغربية مع ليبيا لتقضي ثورة 30 يونيو تماما على مقدمات مخطط سقوط الدولة الوطنية المصرية .

وكان زيناوي و ديسالين قد تشبعا قناعة بالدراسات و التقارير الإسرائيلية في شقها المتعلق بإحتياج مصر المزمن للكهرباء من خلال فيديوهات قدمت لهما أظهرت انقطاع التيار الكهربائي في مصر لساعات طويلة ، و تحول كثير من المحلات التجارية المصرية لبيع المولدات الكهربائية بدلا من نشاطها الأصلي .وعندما وصلت هذه المعلومات للرئيس السيسي من مصادرنا في إثيوبيا بادر عقب توليه الحكم بإعطاء أولوية قصوى لتوفير الطاقة للمصريين فقام ببناء ثلاث محطات لإنتاج الكهرباء بالتعاون مع شركة سيمنز الألمانية. كما اتفق على بناء أول محطة نووية لتوليد الطاقة الكهربائية من الطاقة الذرية بالضبعة لإحباط أي محاولة للتفكير في سقوط مصر في براثن الفقر الكهربائي في المستقبل فضلا عن إقامة أكبر محطات لتوليد الكهرباء في الشرق من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح . و بفضل الله ، جاءت الاكتشافات الهائلة من الغاز ، نتيجة ترسيم الحدود مع الدول المجاورة في البحر الأبيض المتوسط، لتساهم في إدارة محطات إنتاج الكهرباء بالغاز. 

كما لم يتأخر السيسي أيضا عن إقامة محطات توليد الكهرباء بالفحم النظيف ، لتتحول مصر من دولة عوز وفقر في الطاقة الكهربائية، إلى دولة ذات وفرة و فائض .و هنا جلس رئيس وزراء إثيوبيا السابق ديسالين يفكر، و قال لنفسه بصوت خفيض : هل يمكن لي و أنا أحكم دولة بها 120 مليون إثيوبي أن أواصل إقامة سد عملاق بهذه التكلفة الهائلة بنيت دراسة جدواه على افتراضات أحبطها عبد الفتاح السيسي . فسد النهضة لمن لا يعرف سوف يتكلف نحو 6 مليارات دولار عند الإنتهاء منه ليولد 6 آلاف ميجاوات ليكون بذلك أكبر سد لتوليد الكهرباء في إفريقيا هذا بخلاف ما سيتكلفه السد من بنية تحتية لنقل الكهرباء بشبكة لإيصال الكهرباء للسودان ثم لمصر كما كانت تخطط إثيوبيا . 

كما أن الدراسات الإسرائيلية التي بنت عليها إثيوبيا سدها لم تتطرق إلى تكاليف الصيانة المستمرة، و توفير حراسة دائمة أيضا لضمان سلامة شبكات نقل الكهرباء في أدغال إفريقيا في دولة تعاني من النزاعات العرقية ، فضلا عما يحمله السد من مخاطر الإنهيار لقيام إثيوبيا ببنائه في منطقة الفالق الأرضي و هي نفس نوعية التربة التي تسببت في إنهيار سد باتيل بكينيا في مايو 2018 .

وواصل ديسالين التفكير بنفس المنطق الإقتصادي قائلا : ما هي الجدوى الإقتصادية من سد النهضة بعد أن تحولت مصر من دولة عوز كهربائي لدولة فائض كهربائي . 

و لم يعد أمام ديسالين سوى تغيير مسار تفكيره نحو السودان ، و هنا طغى أيضا الجانب الإقتصادي على تفكير ديسالين.... هل يمكن أن يتحمل الإقتصاد الإثيوبي الضعيف فاتورة تصل إلى 6 مليارات من الدولارات الأمريكية إضافة إلى أكثر من 2 مليار دولار لإقامة شبكة توصيل الكهرباء للسودان في وقت يعاني فيه السودان أصلا من أزمة إقتصادية طاحنة ، قفز بسببها سعر الدولار أمام الجنيه السوداني من 8 جنيهات إلى 40 جنيها؟ . وتابع ديسالين حديثه لنفسه قائلا " لو افترضت جدلا أن السودان سيسدد فاتورة إستخدام كهرباء سد النهضة للسنة الأولى، فهل سيكون بمقدور السودان الاستمرار بالوفاء بالتزاماته المادية تجاه إثيوبيا ، في وقت يحاول فيه البنك المركزي السوداني ، بشتي الطرق ، تقليل فاتورة الاستيراد نظرا للنقص الحاد في العملة الصعبة " . 

ولم يجد ديسالين بعد أن حشد الشعب الإثيوبي مثل سابقه زيناوي لصالح سد النهضة، بوصفه قاطرة التنمية في إثيوبيا ، سوى التفكير في الاستقالة بعد أن أوهم شعبه بمشروع فاشل على المستوى الإقتصادي . ومع تولي أبيي أحمد منصب رئاسة الوزراء في أثيوبيا، بادر الرجل بالقول علنا ما كان يقوله ديسالين لنفسه سرا ....وهو لا جدوى اقتصادية من إقامة سد عملاق لتزويد دولة واحدة بالكهرباء و هي السودان و ربما لا تستطيع هذه الدولة تسديد ما ستحصل عليه من طاقة . فهل يمكن لأبيي أحمد أن يحمل بلده الذي يعاني من أزمات اقتصادية حادة و من انفجار سكاني هائل و نزاعات عرقية أن يحمله دين يزيد عن 8 مليارات دولار مقابل عائد سنوي لا يزيد عن 300 مليون دولار هذا لو التزمت السودان بتسديد ما عليها من التزامات مادية ؟ .الإجابة هي قطعا لا .. فالرجل كان صريحا أمام شعبه، وأمام العالم ، بعدم جدوى هذا السد لو بني بهذا الحجم الهائل..

وفي النهاية علينا الاعتراف بفضل السيسي الذي قلل من أهمية سد النهضة الاقتصادية بتحويل مصر من الفقر الكهربائي للثراء الكهربائي، و لم يعد أمام إثيوبيا إلا بناء سد متوسط القدرة الكهرومائية ، أو أقل من المتوسط ، وهو ما لا تعترض عليه مصر من منطلق أن لكل دولة من دول حوض النيل الحق في إقامة مشروعات تنموية للنهوض بشعبها دون إلحاق الضرر بأي دولة من دول حوض النيل .
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط