أماني عبد الرحمن تكتب: الباب العتيق
وقفت أمام الباب العتيق تدفق الذكريات إلى عقلها كالأمواج المتلاحقة..
ترقرقت فى عينيها دمعة توالت بعدها الدموع فيضا من الحنين والاشتياق لمن عاشت معهم فى هذا الدار..
تكاد تسمع أصواتهم وضحكاتهم هنا تعلمت العطاء والتضحية
هنا شعرت بالسعادة
هنا لعبت صغيرة وأحبت مراهقة
فالأمومة والأبوة ليست مشروطة بصلة الدم عاشت ابنة مطيعة محبة لهما رغم عدم إنجابهما لها فهى ابنة الأخت التى فضلت العيش معهما.
فضلت أن تصبح بسمة وونسا فى حياتهما، وربما كانت هى منحة ربانية لهما وعوضا عن عدم الإنجاب.
خلف هذا الباب طالما علت الضحكات وتجمعت العائلة وفى تلك الشرفة الواسعة المطلة على الأشجار الوارفة وماء النيل كم جلست معهما تنهل من حبهما لها.
وهنا أمام هذا البيت الكبير لعبت مع أبناء العائلة ولعب أبنائها أيضا
ومن هذا المسجد المقابل للبيت سمعت تواشيح النقشبندى التى عشقتها عشقا قبل صلاة المغرب مقترنة بعودة الفلاحين من حقولهم فقد كان المنزل أول القرية
استجمعت قواها وفتحت الباب فإذا بها تشتم رائحتهما فى كل مكان احتفظت الجدران برائحة الأحباب كما احتفظ قلبها وعقلها بكل الذكريات
مع دخولها البيت تحولت الذكريات لأطياف شبه حقيقية
ابتسمت ما أن رأت ماحفرته بيدها منذ سنوات على مكتبها الصغير فإذا بها ترى نفسها صغيرة تجلس تذاكر وبجوارها أمها الحنونة تطعمها وتملى على مسامعها درس قراءة فى الصف الرابع، ويدخل الأب ليسألها مازحا عن جدول الضرب الذى حاول مرارا تحفيظه لها
تتنقل ببصرها لتدخل المطبخ الكبير فترى نفسها أمام الفرن تعد أمها لها الخبز الطازج فتلتف حولها هى وأبناء خالتها
راحت تستمع صوت الملاعق أثناء الطعام والضحكات المتتالية والجلسات الدافئة حول الفرن يلوذون به من برد الشتاء
يدق الباب، فتجرى مسرعة لتفتح لوالدها الباب مشفقة عليه من المطر يخلع حذائه المحمل بالطين ويعلو مزاحه المعتاد وكلماته المحفوظة
"هاتجوز عليها بس انا مش راضى عشانك
تضحك ببراءة
ماتقدرش يابابا "
ومع زيادة المطر ينقطع الكهرباء ،فيزداد الدفء حيث يتجمع الأطفال حولهما على "لمبة الجاز " يخرج منها شعلة صغيرة من النار سامحة لهم بترك الواجبات، معلنة عن جلسة سمر دافئة فى ليلة شتاء باردة
تحمل ذكرياتها تجول بعينيها لتصل إلى حجرتها فترى نفسها نائمة وحرارتها مرتفعة وهما بجوارها إلى أن تتماثل للشفاء .
ثم وقفت برهة أمام باب غرفة الأب تغالب دموعها تلملم مابروحها من ألم الفراق ،فتحت الباب وأضاءت المصباح من زر بجوار الباب انتظرت أن يغلقه من زر آخر بجوار سريره مثلما اعتادت منه، صنعه هو ليمازحها دوما فكلما ضغطت هى على الزر لتفتح النور يغلق هو من عنده وبجواره جهاز الراديو الذى لا يغلق مابين برامج مسلية، أحبت من خلالها الإذاعة....... أو صوت عبد الباسط ومحمد رفعت فى تلاوة القرآن الكريم ......كل شئ فى الحجرة كما كان لا شيء تغير سوى أنه لم يعد موجودا ....
جلست وسط الدار تتذكر يوم شم النسيم وخروجهم جميعا حول الصفصافة بين الحقول تذكرت شواء الذرة وصوت الساقية، شجرة التوت ،الأصدقاء والأقارب والأحباب، الكل يلعب ويلهو كبارا وصغار.
مابين حجرة وحجرة كبرت الصغيرة وأنهت تعليمها وتزوجت وأنجبت ومرضت الأم الحنون ومازال الأب يقول مازحا "هاتجوز بس مش راضى عشانك".
بينما اختلف ردها بحكم السنين
"موافقة يابابا بس هات واحدة تساعدنا "
تولت هى والجميع رعاية الأم فى مرضها فقد كانت أما حنونة للجميع
ورحل هو سريعا دون إنذار فلم تستطع الاعتناء به لم يمهلها القدر لتفعل هذا مما ترك فى نفسها حزنا عميقا
عادت من ومضاتها
أمام الباب القديم ودموعها أنهارا متدفقة اشتياقا وحنينا لهما وبسماتها على وجهها فقد لامست بعض الذكريات ،
ولسانها داعيا لهما إلى أن تلقاهما ......
وقلبها يردد. ...هنا ....تعلمت العطاء والحنان
رجعت إلى سيارتها وابتلعها زحام الحياة. .........