نهضة قلم أيام الحرية (3)

أتذكر أنني شاركت يوم17 يناير 2011 بعد نجاح الثورة التونسية في حلقة نقاشية بأحد مراكز الدراسات السياسية حضرها أكثر من عشرين من المفكرين والناشطين السياسيين، وكان السؤال المطروح في هذه الحلقة هو هل يمكن أن يتكرر الحدث التونسي في مصر؟
وبعد مناقشات دامت عدة ساعات توصل المجتمعون إلى استحالة تكرار الحدث التونسي في مصر لأسباب كثيرة، منها على سبيل المثال أن هناك طبقة سميكة من المنتفعين ببقاء النظام السابق تحول بين الشعب المصري وآماله في التحول والتغيير اعتمادا على ما قاله فولتير عراب الثورة الفرنسية من أن المستبد يحول ربع شعبه إلى منتفعين يقاتلون دونه.
وأسباب أخرى متعلقة بنسب الأمية والفقر في المجتمع المصري الذي يجعل أولويات المجتمع مرتبطة بالإصلاح الاقتصادي أكثر من الإصلاح السياسي.
ولكن صوت عبد الرحمن الكواكبي كان حاضرا عندما ذكرت أن شروطه في هزيمة الاستبداد هى الحاكمة وهى ما ينبغي أن نجيب بها عن هذا التساؤل، ولأن تاريخ الثورات المصرية منذ ثورة القاهرة الكبرى يؤكد صحة ما وصل إليه الكواكبي.
وفي أيام الحرية التي تعيشها مصر ونحن نقترب من الاحتفال بالذكرى الثانية للثورة العظيمة ثورة الخامس والعشرين من يناير، التي تعد الحلقة الأخيرة في سلسلة نضال المصريين من أجل انتزاع حريتهم وتأكيد حقوقهم في الكرامة والعدالة الاجتماعية وتأكيد سلطة الشعب وحقه الأصيل في تشكيل واختيار نظامه السياسي.
وكنت عرضت على قارئي في المقال السابق شروط نجاح الثورات التي وضعها الكواكبي في كتابه الرائع "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" لنجيب عن السؤال المهم وهو كيف نجحت ثورة الخامس والعشرين من يناير، وكيف يمكن أن تستمر العوامل التي أوجدتها حاضرة في الوعي الجمعي للمصريين حماية لتلك الثورة العظيمة وللمجتمع من التفريط في مقدراتها ونتائجها.
وعرضنا هذه الشروط على تاريخ النضال المصري لنختبرها ولنعي درس التاريخ لأن من وعى التاريخ في صدره أضاف أعمارا إلى عمره، حيث استعرضنا تجربة المصريين في ثورة القاهرة الأولى والتي كانت وبلا شك ثورة استكملت بعضا من الشروط الأربعة اللازمة لنجاح الثورات واستمرار حيويتها وتدفقها.
وإذا كانت ثورة القاهرة الأولى هى من أوائل أيام الحرية والنضال المصري، فإن ثورة 1919 هى حلقة مهمة ويوم عظيم من هذه الأيام التي يجب أن نتوقف أمامها نختبر بها هذه الشروط، حيث وجد المجتمع المصري نفسه بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، يعاني سوء الأحوال المعيشية مع ما صاحب ذلك من إعلان الإنجليز للأحكام العرفية على مصر.
وكانت سلطة الاحتلال أثناء الحرب تصادر ممتلكات الفلاحين من أجل المساهمة في تكاليف الحرب، كما حرصت السلطات العسكرية على إجبار الفلاحين على زراعة المحاصيل التي تتناسب مع متطلبات الحرب مع بخس ثمن هذه المحاصيل، وتم تجنيد مئات الآلاف من الفلاحين بشكل إجباري للمشاركة في الحرب فيما سمى "فرقة العمل المصرية" التي استخدمت في الأعمال المعاونة وراء خطوط القتال.
وعندما انتهت الحرب العالمية الأولى بانتصار الحلفاء وخرج العالم يردد مبادئ ويلسون الأربعة عشر على اعتبار أنها ستنصف الشعوب المحتلة استنادا إلى مبدأ حق تقرير المصير، ذهب زعماء مصر يرأسهم سعد زغلول إلى المندوب السامي البريطاني ونجحوا في الحصول منه على موافقته على السفر إلى باريس لعرض قضية استقلال مصر على مؤتمر الصلح هناك.
وحتى تكون لسعد زغلول صفة الوكالة عن الشعب في المطالبة بحقوقه، بدأت حملة توقيعات على عرائض بتوكيل سعد زغلول ورفاقه، وجاء رد الخارجية البريطانية - التي كان يرأسها بلفور - برفض ذلك الطلب تحت دعوى أن "الوقت الذي يصبح فيه ممكنا منح مصر حكما ذاتيا لم يحن بعد".
وكانت حركة توقيع التوكيلات ألهبت المشاعر الوطنية في مواجهة سلطات الاحتلال التي نشطت في قمع التفويض الشعبي لسعد زغلول ورفاقه.
وإزاء تعاطف قطاعات شعبية واسعة مع هذا التحرك، قامت السلطات البريطانية بالقبض على سعد زغلول وثلاثة من أعضاء الوفد هم محمد محمود وحمد الباسل وإسماعيل صدقي، ونفتهم إلى مالطة في الثامن من مارس عام 1919، وكان ذلك إيذانا بقيام الثورة.
إذن الشروط الأربعة التي تحدثنا عنها كانت اكتملت إلى حد كبير، فالغضب العام لم يستثن أحدا، والإصرار على النضال المدني السلمي كان هو السمة الغالبة للتحركات الشعبية لهذه الثورة، وإعداد البديل المطلوب الذي تمثل في الحرية والنظام الديمقراطي الدستوري، وكذلك الحادث المؤلم الملهم الذي جري مع نفي زعماء الوفد المصري إلى جزيرة مالطا.
وفي 9 مارس 1919 صبيحة اعتقال سعد زغلول وأعضاء الوفد، أشعل طلبة الجامعة في القاهرة شرارة التظاهرات، وفي غضون يومين، امتد نطاق الاحتجاجات ليشمل جميع الطلبة بمن فيهم طلبة الأزهر.
وبعد أيام قليلة كانت الثورة اندلعت في جميع الأنحاء من قرى ومدن، وخرجت جميع طوائف الشعب في هذه الثورة، فقد كانت ثورة شعبية بحق، شارك فيها العمال والطلبة والفلاحون، وخرجت المرأة في مظاهرات فأبهرت المجتمع بجرأتها ووطنيتها.
ولم تتوقف احتجاجات المدن على التظاهرات وإضرابات العمال، بل قام السكان في الأحياء الفقيرة بحفر الخنادق لمواجهة القوات البريطانية وقوات الشرطة وكذا قطع خطوط السكك الحديدية ومحاولة شل حركة قوات الاحتلال، وعقب انتشار قطع خطوط السكك الحديدية، أصدرت السلطات بيانات تهدد بإعدام كل من يساهم في ذلك وبحرق القرى المجاورة للخطوط التي يتم قطعها.
وتم تشكيل العديد من المحاكم العسكرية لمحاكمة المشاركين في الثورة، ولم تتردد قوات الأمن في حصد الأرواح، كما حدث في الفيوم عندما تم قتل أربعمائة من البدو في يوم واحد على أيدي القوات البريطانية وقوات الشرطة المصرية.
ولم تتردد القوات البريطانية في تنفيذ تهديداتها ضد القرى، كما حدث في قرى العزيزية والبدرشين والشوبك وغيرها، حيث أحرقت هذه القرى ونهبت ممتلكات الفلاحين.
وإذا تطرقنا إلى نتائج الثورة، فإن المجال لا يتسع للحديث عنها بالتفصيل، ولكن يمكن القول بأنها وإن لم تؤد إلى تحقيق الاستقلال فقد كانت لها آثار مهمة على تطور الحركة الديمقراطية.
فقد أسفرت عن نشأة حزب الوفد وأحزاب أخرى ووضع أول دستور لمصر في عام 1923 وقيام أول حكومة منتخبة هى حكومة الوفد، في الوقت نفسه، فقد نبهت الثورة الطبقات العليا من كبار الملاك إلى أهمية الاعتبار للتحرك الجماهيري وأهمية إدراك قدرة الإرادة الشعبية على التغيير.
.. وللحديث بقية في المقال القادم بإذن الله.
نقلا عن "الأهرام"