الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

طعنة للتاريخ


الأهم من نشوب الأزمة، هو كيفية التعامل معها وإدارة عواقبها، والاستفادة أيضا منها فى مرحلة العلاج وتصويب الأخطاء.. وفى حالة العجز عن تجنب وقوع الكوارث، فالأحرى التعجيل بالتخطيط والجهد المنظم لتقليل الخسائر وتعويض الفاقد . وكلنا أصابتنا الصدمة من مشهد حريق كاتدرائية نوتردام فى قلب العاصمة الفرنسية باريس، وفى كل لحظة تلتهم النيران ركنًا من الكنيسة التاريخية يحترق القلب وتدمع العين لانهيار قيمة جمالية ومعمارية استغرق بناؤها ٢٠٠ عام منذ القرن الثالث عشر الميلادى.. ونتيقن من أن أصابع الإرهاب الخبيثة تقصد تدمير الآثار المقدسة ومحوها من العالم بنفس قدر استهداف البشر وتفجير شلالات الدماء فى الشوارع والميادين!.

وفى المجتمعات المتحضرة تتحرك الكيانات والمؤسسات بسرعة البرق على خط المواجهة وجبهة الإنقاذ.. وفى ساعات معدودة ارتفعت شيكات التبرعات والمساعدات لإعادة بناء الكاتدرائية وترميم مبانيها إلى نحو مليار دولار، وقفزت دول الجوار الأوروبى على الكادر لتفتح أنابيب الحياة للحفاظ على ماتبقى من تراث الإنسانية وعبق التاريخ .. واتفقت الشركات العملاقة والمجموعات الاقتصادية المتنافسة على ضرورة استغلال الحدث لتسجيل موقفها أمام العالم ومقاومتها لخفافيش الإرهاب من ناحية، وخلق منفذ تجارى لها بتجديد الكاتدرائية وكسب أرض داخل عمليات الترميم من ناحية ثانية، وتحقيق نصر إعلامى يدر مزيدا من الإعلانات والترويج لأنشطة ومشروعات هذه الشركات من ناحية ثالثة!.

لقد وقعت الكارثة .. واحترق الرمز .. وارتدى الجمال ملابس الحداد السوداء .. ورغم ذلك لم تستسلم العيون للألم ومشاعر الحسرة .. بل جفف الجميع دموعهم بـ"مناديل" العمل والهمة وثقافة الإنجاز السريع دون تباطؤ أو تلكؤ .. ورفعت المصلحة العامة لكل طرف شعارها فى وجه الأخطبوط الأعمى، وأجبر الوضع السلطة فى فرنسا من الرئيس وحتى أصغر الحُرَّاس على تحمل المسئولية ونبذ الخلافات وتبادل إلصاق الاتهامات بالتقصير والفشل .. وبأسلوب الكبار، تواصل المسئولون وأهل القرار فيما بينهم فى هدوء وعقل بارد، والتفت دول أوروبا حول الجارة "الشقيقة" فرنسا لمؤازرتها فى المحنة والمساعدة العاجلة والفورية لبناء وجه آخر لكاتدرائية نوتردام فى صورتها العصرية لتتحدي قوى الظلام وأباطرة التدمير والهدم .. وتلك هى رسالة الأقوياء .. فالرد عمليا على مخططات الإرهاب المنظم لاتقتصر على الحلول العسكرية أو سد الثغرات الأمنية، وإنما أفضل خيار عند المواجهة يتجلى فى الإحلال والتجديد واستبدال ماتم تلفه وحرقه بما هو أكثر رسوخا وجمالا وصلابة .. والفائزون فقط هم من يستطيعون تحويل الهزيمة والانكسار إلى نشوة وانتصار .. وسر تفوق الغرب بـ "حضارته المتجددة" فى قدرة أبنائه وسلالاته على صد الطعنات وردها إلى الآخر، وبأسرع الوسائل وأقصر الطرق .. وهذا هو فن إدارة الأزمات وله رواده وأساتذته .. ومنه يخرج السادة ويتفرج العبيد .. ولا زلنا نتعلم!.

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط