لا يسمع شيئًا إلا حفظه.. تعرف على سيرة الإمام وكيع الجراح مدمن قيام الليل
وكيع بن الجراح الكوفي، هو الإمام المحدِّث، بحر العلم، وإمام الحفظ والسرد، العالم الجوَّال، والعابد المجتهد، راهب العراق، وزاهد المصرين [البصرة - الكوفة]، وهو محدِّث العراق وأحد أئمَّة الأثر المشهورين، وأستاذ الأئمَّة؛ الشافعى وأحمد بن حنبل وغيرهم.
وُلد سنة 129هـ في بيت علمٍ ورياسةٍ واحتشام، وأبوه كان من أعيان الكوفة وزعمائها، وكان ممَّن يتعانى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فوجَّه ولده وكيعًا لطلب العلم وسماع الحديث منذ صباه.
طاف البلاد وسمع من الأكابر، فاجتمع عنده من أسانيد الأحاديث ورواياته المختلفة ما لم يكن لأحدٍ من معاصريه، حتى إنَّ أستاذه الثوري كان يدعوه وهو غلامٌ حدثٌ فيقول: يا رؤاسيُّ، تعال، أيُّ شيءٍ سمعت؟ فيقول: حدَّثني فلان بكذا، وسفيان يبتسم، ويتعجَّب من حفظه، ويقول: لا يموت هذا الرؤاسيُّ حتى يكون له شأن.
حتى إنَّ سفيان نفسه على جلالة قدره وعظم مكانته في الأمَّة قد روى عنه الحديث، وصدقت فراسة سفيان رحمه الله؛ ذلك أنَّه لمـَّا مات سفيان الثوري سنة 166هـ جلس وكيع بن الجراح مكانه في مجلس تحديثه.
وكان وكيع بن الجراح آيةً من آيات الله عزَّ وجلَّ في الحفظ والإتقان؛ فقد كان مطبوع الحفظ لا يسمع شيئًا إلَّا حفظه، ولا يحفظ شيئًا قط فينساه، أبهر الناس بقوَّة حفظه، وكان يستعين على ذلك بترك المعاصي، سأله أحد تلاميذه يومًا وهو على خشرم عن دواءٍ يأخذه حتى يُقوِّي حفظه، فقال: إن علمتك الدواء استعملته؟ قال: إي والله. قال: ترك المعاصي، ما جرَّبت مثله للحفظ.
وعلى الرغم من شهرة وكيع بن الجراح وإقبال الطلبة عليه وتصدُّره لمجلس تحديث الثوري، فإنَّه كان عابدًا، زاهدًا، يديم الصوم في السفر والحضر، لا يتركه أبدًا، يختم القرآن في الأسبوع الواحد عدَّة مرَّات، مدمنًا لقيام الليل، مشتغلًا بالأوراد والأذكار، لا يُضيع لحظةً من وقته هدرًا، يُقسِّم يومه على نفع نفسه والناس.
فلقد كان يجلس لأصحاب الحديث بكرةً إلى ارتفاع النهار، ثم ينصرف، فيقيل، ثم يُصلِّي الظهر، ويقصد الطريق إلى المشرعة حيث يتجمَّع الناس لسقيا دوابِّهم، فيُعلِّمهم القرآن والفرائض وسائر ما يحتاجونه من أمور دينهم إلى حدود العصر، ثم يرجع إلى مسجده، فيُصلِّي العصر، ثم يجلس يدرس القرآن ويذكر الله إلى آخر النهار ثم يدخل منزله، فيتناول إفطاره، وبعد صلاة العشاء يصف قدميه لقيام الليل، ثم ينام ويقوم، وهكذا حتى وقت السحر.
ولقد عرض الرشيد منصب القضاء على وكيع عدَّة مرَّاتٍ فرفض بشدَّة، وكان منقبضًا عن السلطان ومجالسه مثل أستاذه الثوري؛ بل كان مجافيًا حتى لمن يتلبَّس بشيءٍ من أمور السلطان؛ فلقد هجر أقرب أصدقائه -وهو حفص بن غياث- لمـَّا تولَّى منصب القضاء، وهكذا شأن العلماء الربانيِّين في كلِّ زمانٍ ومكان.
وقال الإمام أحمد بن حنبل: ما رأيت أحدًا أوعى للعلم ولا أحفظ من وكيع، وما رأيت مثل وكيع في العلم والحفظ والإسناد والأبواب مع خشوعٍ وورع. هذا على الرغم من أنَّ الإمام أحمد قد شاهد الكبار مثل هشيم، وابن عيينة، ويحيى القطان وأمثالهم، ولكن كان أحمد يُعظِّم وكيعًا ويُفخِّمه، وكان أحمد يُفضِّل وكيعًا على ابن مهدي ويزيد بن هارون.
المحنة التي تعرَّض لها وكيع بن الجراح محنةٌ غريبة، تورَّط فيها بمخالفته من حيث لا يدري للأصل الذي قرَّرناه في مقدِّمة الكلام، أَلَا وهو مخاطبة الناس على قدر عقولهم وفهومهم، وإن كان لم يُرِدْ إلَّا الخير، وأصل هذه المحنة يرجع إلى السَّنَة التي حجَّ فيها وكيع بن الجراح، فلمَّا عَلِمَ الناس في مكة بمجيئه وهو حافظ العراق اجتمعوا عليه وعقدوا له مجلسًا في الحديث، فأخذ وكيع في تحديثهم، فلمَّا وصل إلى الحديث الذي رواه عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله البهي عن أبي بكر الصديق أنَّه جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فأكبَّ عليه، فقبَّله، وقال: "بأبي أنت وأمي، ما أطيب حياتك وميتتك"، ثم قال لعبد الله البهي: وكان ترك يومًا وليلةً حتى ربا بطنه، وانثنت خنصراه". وهذا الحديث قد حكم عليه بأنَّه منقطعٌ ومنكر، وعلَّته عبد الله البهي وهو مصعب بن الزبير، وهو لم يُدرك أبا بكر الصديق رضي الله عنه.
فلمَّا سمعت قريش هذا الحديث هاجت وماجت، وظنَّ أهلها أنَّ الحديث ينتقص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمع رجالات قريش عند واليها -وهو العثماني- وقرَّروا صلب وكيع بن الجراح وقتله، وقد حبسوه استعدادًا لذلك، وقيل: إنَّ الخليفة هارون الرشيد كان حاجًّا هذا العام، فلمَّا علم بالخبر استفتى العلماء في شأنه، فأفتى ابن أبي روَّاد بقتله، واتَّهم وكيعًا بالنفاق والغشِّ للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ الإمام سفيان بن عيينة قال: لا قتل عليه، رجلٌ سمع حديثًا فرواه، فتركوا وكيعًا وخلوا سبيله.
خرج وكيع من مكَّة متجهًا إلى المدينة، وندم العثماني والي مكة على تركه بشدَّة، وقرَّر أن يقتل وكيعًا بأيِّ سبيل، فأرسل أهل مكَّة إلى أهل المدينة بالذي كان من وكيع وقالوا: إذا قدم عليكم، فلا تتَّكلوا على الوالي، وارجموه حتى تقتلوه، فلمَّا عرف بعض علماء المدينة مثل سعيد بن منصور هذا الخبر، وعزمِ المدينة على قتل وكيع، أرسل إليه بريدًا عاجلًا أن لا يأتي المدينة، ويُغيِّر مساره إلى طريق الربذة، فلمَّا وصل البريد إلى وكيع -وكان على مشارف المدينة- عاد إلى الكوفة.
بعد هذه الحادثة لم يستطع وكيع بن الجراح أن يذهب إلى الحجِّ مرَّةً أخرى، وحيل بينه وبين مكة والمدينة، وخاض بعض الجهَّال في حقه، واتَّهموه بالتشيُّع والرفض، لكنَّه تجاسر سنة 197هـ وحجَّ بيت الله الحرام فقدَّر الله عز وجل وفاته بعد رجوعه من الحجِّ مباشرة، فمات ودُفن بفيد على طريق الحج بين مكَّة والكوفة.