الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

بين النبي والأنصار


حين يذكر الإيثار، والحب، والفداء، والبذل، والتضحية، والسخاء، والكرم، والقلوب الحانية الصافية، الرقيقة كأفئدة الطير، يذكر الأنصار، رضى الله عنهم جميعا وأرضاهم، أنهم السابقون، الأولون، الذين رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه، وأمرنا باتباعهم بإحسان، وأعد لهم الرب العلى جنات تجري من تحتها الأنهار، جزاء وفاقا لما أخلصوه وبذلوه عن طيب خاطر وبذل لم تعرفه البشرية ، ولم يعرفه المحبون قط، إلا من خلالهم فحسب.
 يقول الله تعالى مسجلا ثناءه عليهم: "وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ"، ويمدحهم الله سبحانه ويذكرهم في كتابه الخالد خلود السموات والأرض، واصفا إياهم بصفة الإيثار، قائلا: "وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ".

 وقال فيهم رسول الله : "آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ"، وعن البراء بن عازب قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم فِي الأَنْصَارِ: لا يُحِبُّهُمْ إِلا مُؤْمِنٌ، وَلا يَبْغَضُهُمْ إِلا مُنَافِقٌ، مَنْ أَحَبَّهُمْ فَأَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَأَبْغَضَهُ اللَّهُ".

مواقف مشرفة لا تحصى ولا تعد، سجلتها صفحات تاريخنا الإسلامي، لكل رجالهم ونسائهم، رضى الله عنهم جميعا وأرضاهم، حبا لله تعالى، ولرسوله ، ولإخوانهم باقى الصحابة المهاجرين، لكن ما يستوقفنى - بالعبرات قبل العبر والعظات - هذا الموقف المؤثر البليغ، الذى دار بينهم وبين قرة أعيننا وفخر الكون نبينا عقب انتصار المسلمين على هوازن وثقيف يوم حنين هذه المعركة العظيمة، في شوال من السنة الثامنة من الهجرة.

فبعد أن غنم المسلمون منهم غنيمة عظيمة، أخذ النبي يقسمها على المؤلفة قلوبهم الذين أسلموا حديثا، فأعطى أبا سفيان وعُيَيْنة وَالْأَقْرَع، وَسُهَيْل بن عمرو، وغيرهم من كبار القوم، الذين كانوا كبار كفار قريش، الذين طالما آذوه، وآذوا أصحابه، وحاربوه وقاتلوه، لكنهم أسلموا قبل تقسيم الغنائم بأيام قليلة فقط، ولم يعط الأنصار شيئا، الذين طالما بذلوا دماءهم وأرواحهم لنصرة دينهم الإسلام، والذود والدفاع عن نبيه، وهنا حدث الأنصار أنفسهم حسرة وأسى متسائلين: "سُيُوفنَا تَقْطُر مِنْ دِمَائِهِمْ، وَهُمْ يَذْهَبُونَ بِالْمَغْنَمِ، ولم يفطنوا لحكمة نبينا البليغة في ذلك اتكاء إلى ما زين الله به قلوبهم من قوة الإيمان.

وهنا لم يتمالك سعد بن عبادة رضي الله عنه نفسه، فجاء إلى النبي ، ليصارحه ويخبره بما يجول في قلوب وفكر أصحابه الأنصار، فلما أخبر النبى بذلك، تعجب صلى الله عليه وسلم كيف تقول قلوبهم وخواطرهم هذا؟ قائلا لسعد: "فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: ما أنا إلا من قومي"، وهنا كانت صراحة سعد وصدقه مع نبيه، فلم يداهن، بل صارحه بما وجد بقلبه وقلوب أصحابه، فقال له النبى : فاجمع لي قومك، فلما اجتمعوا أراد أن يتحقق ويسمع منهم، فقال لهم: ما حديث بلغني عنكم؟ ثم خطبهم خطبة بليغة، استرق واستجمع بها أفئدتهم، فلانت طواعية، وهطلت أعينهم دمعا، وأقنع بها عقولهم بجميل منطوق حكمته، وبلاغته، وحبه لهم، فقال لهم ، معددا نعم الله تعالى عليهم: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، ما مقالةٌ بلَغتني عنكم، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ اللَّهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمْ اللَّهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ بِي"، وإذا بهذه النعم والكلمات تلامس أفئدتهم، و تقرع أبوابها، وتهز مشاعرهم، وكُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، أي: المِنَّةُ والفضلُ للهِ ورسولِه.

ثم يواصل حبيبنا وحبيبهم حديثه وبرهانه لحبه لهم، ولا يجحد فضلهم رضى الله عنهم وأرضاهم، قائلا لهم: "مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالُوا ودموعُهم تسيل على خدُدِهم: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، ثم قَالَ: "أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدِّقْتُمْ: جِئْتَنَا طَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَوَاسَيْنَاكَ، وَخاَئِفًا فَأَمَّنَّاكَ، وَمَخذُولًا فَنَصَرْناَكَ، وَمُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ،"، موضحا لهم لما أعطى غيرهم دونهم:" أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا -شيء يسير جدًّا- تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ؟"، مستطردا قائلا: "أَلاَ تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ فِي رِحَالِكُمْ؟"، وكأنه يسألهم أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا؟!، فإن كانوا هم رجعوا بالنوق والشاة، فقد رجعتكم انتم معشر الأنصار برسول الله ". 

ثم يقسم ، مبينا لهم فضلهم ومكانتهم عنده قائلا: "فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْلاَ الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ"، ثم يدعو لهم فيقول: "اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ"، فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسمًا وحظًّا"، ثم يذكرهم بالآخرة، فقال : "إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ بَعْدِي أَثَرَةً شَدِيدَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ".

ووالذى نفسى بيده، لكأننا بين حبيبنا النبى وجموع الأنصار في هذا المشهد المهيب، تذرف وتهطل دموع قلوبنا قبل عيوننا معهم، من كلمات حبيبنا ، وها نحن نقول لك نبينا الحبيب: رضينا بك يا رسول اللَّه قسما وحظا، ونعلنها لساداتنا الأنصار، شاهدين الله علينا، أننا نحبكم معشر أهل الإيثار والفضل والصدق، رافعين أكف الضراعة له سبحانه أن يحشرنا معكم.. وكل عام أنتم بخير.. وصوما مقبولا.. وإفطارا شهيا. 
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط