الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

55 سنة ظلم



بالحاح غريب لم أعهده من رئيسى السابق جاءت مكالمته لى بالحضور فورا، وتخوفت ان يكون فى مأزق وخاصة انه يعيش وحيدا وفى سن متقدمة فقد اوشك ان يستقبل عامه الثمانين. هرولت مسرعة اليه وتعيدنى الذكريات الى يوم تخرجى وتوصية احد اقارب ابى رحمه الله للعمل فى المؤسسة الصحفية العريقة التى يترأس تحريرها ذلك الكيان الذى تهتز له كافة الاوساط الاجتماعية ويرافق الرئيس فى كل رحلاته.

عندما ذهبت لمقابلته لم أكن خائفة بعكس ما تخيل كل افراد اسرتى فيما عدا ابى الذى ورثت منه الشجاعة والصلابة ، توجهت الى مكتبه واستقبلتنى سكرتيرة يظهر من جسدها اكثر مما تخفى وبابتسامة تصهر اقوى الرجال واصلبهم قالت لى : معاكى معاد سابق ؟ اجبتها على الفور عمو احمد قالى روحى النهارده الساعه اتناشر هو مستنيكى .. ضحكت وتمايلت وهمست فى اذنى : احمد يبقى عمو والريس الكبير اللى باشارة من صبعه بيتغير حال الدنيا كلها يبأه هو مستنيكى ؟ واستكملت اوعى تقولى كده ادامه احسن يمحيكى من على وش الدنيا ..
وتركتنى ودخلت الى مكتب مكتوب على بابه بحروف بارزة الاستاذ فايز السلامونى رئيس التحرير ورئيس مجلس الادارة ، لم انتظر طويلا فقد وجدته خارجا الى حيث انتظره مرحبا بى بطريقة مبالغ فيها جعلتنى اخشى انه يكون قد اخطأ فى شخصى المتواضع ، ولكنه بدد قلقى وقال لى وهو يمسكنى من يدى ويأخذنى الى مكتبه ويأمر سكرتيرته بالغاء كافة المواعيد وعدم ادخال تليفونات اليه فهو اليوم فى ضيافة ريحة الحبايب ..
اجلسنى على كرسى فخيم وقال لى اؤمرى عايزه تشتغلى فين وايه طموحاتك وانا احققها فى غمضة عين ، انت جايه من عند البركة كلها وابن الاصول وصاحب الفضل عليا وعلى اهلى كلهم الطاهر الشريف العفيف احمد . قلت له وكلى شمم من مقدمته عن عمى احمد : انا عايزه اكون صحفيه فى جورنالك .. قالى اعتبرى نفسك بقيتى خلاص ، ايه اللى فى دماغك ، بتحلمى بايه ، نفسك تعملى ايه متعملش فى الصحافة ؟ مضى على هذا اللقاء اكثر من ربع قرن عشت فيهم فى بلاط صاحبة الجلالة انحت فى الصخر كى احفر اسما يفتخر به ابنائى وبفضل الاستاذ فايز ومعارفه فتحت لى ابواب الشهرة على مصراعيها واصبحت فى فترة قصيرة علم من اعلام صاحبة الجلالة ولم انس ابدا فضله على وكنت ادافع عنه دوما واحاول ان انقى ثوبه من البقع التى تطوله وكلها تتعلق بحياته الشخصية ومغامراته ولا تمس كيانه الصحفى وقدرته فى الكتابة .
تعبت فى طريق دفاعى عنه ولكنى لم ايأس ولم امل ابدا لانى كنت اراه من زاوية اخرى ، زاوية الانسان الذى يخطىء ويصيب ، يقترف السيئات ويقدم الحسنات ، كان نموذجا للتناقضات مجسدا ، اذكر اننى صارحته يوما بانى احبه وعلى استعداد ان ارتبط به رغم فارق السن واكدت له اننى ان وافق سأكون اسعد انسانة فى الدنيا، لا انسى رده وقوله وانا ساصبح اتعس انسان على وجه الارض لاننى سأتسبب فى اتعاس مخلوقتين احدهما زوجتى التى تحملتنى وساندتنى فى اشد مراحل صعودى سلم صاحبة الجلالة ، وانتِ الفتاة الصغيرة السن التى تريد شابا يعيش معها عمرها وفرحها وطرحها ، انا ان وافقتك سأسرق عمرك واسلب شبابك ، وانا لست ممن يأخذون اشياء لاتناسبهم .
كلماته كانت طلقات رصاص فى صدرى جعلتنى اقاطعه واترك الوسط الصحفى كله واعمل مذيعة فى التلفزيون واتزوج وانجب ويظل فايز محتل مكان ومكانة منى ، وعندما قامت ثورة الخامس والعشرين من يناير اهتز عرش فايز وقدم استقالته بكبرياء وصلف واعلن انه من الموالين للنظام السابق وانه ضد الاخوان قلبا وقالبا واختار العزلة والعيش وحيدا فى محل اقامته فى الشيخ زايد وبعدها بسنوات قليلة توفيت زوجته وعندما علمت بالخبر جريت اليه لاعزيه فاحتضننى وبكى وقال لى ماتت ظلما ..
تخيلت ان صدمة الفراق جعلته يقول ذلك ولم اعقب ، وبعدها اصبحت ازوره يوميا واهتم بشؤنه وخاصة ان ابنيه سافرا للعمل والهجرة فى كندا واصبحا من حين لاخر يتصلان به وينهون الاتصال بكلمات يطلبان منه فيها ان يترك مصر ويأتى ليعيش معهما ، وهو يرفض ، ويؤكد لى انهما يقولان ذلك لانهما يعلمان انه سيرفض .
على مدى السنوات الثمانية الاخيرة اصبحت اشعر بأنه ابى وبأننى ابنته وهو مسؤل منى وصرت اكاشف زوجى بهذه المشاعر وكان رجلا راقيا اصيلا فكان يأتى معى حينما ازوره او يرسل معى المربيات اذا لم يكن قادرا على ان يصحبنى فى زيارتى شبه اليومية للاستاذ فايز ، وصلت اليه عقب اتصاله الغامض ، وفتحت ابواب الفيلا ووجدته جالسا على غير عادته فى فراندة الفيلا التى لم يكن يجلس فيها منذ وفاة رفيقة دربه ، نظر لى حزينا وقال لى لماذا تأخرتى ؟ وقبل ان اجيبه ، قال اجلسى ، صبى على يدى الكثير من المياه ، فاخذتنى الدهشة وقلت له : تعالى نذهب واغتسل !! فأجهش بالبكاء وقال غسلتهما كثيرا ولم يتطهرا ففيهما اثار ظلمى .. نصف قرن وعليه خمس سنوات وانا ظالم ، ظلمتها بتنكرى لها وتقليل شأنها وتفضيل كل من هم اقل منها عنها فماتت قهرا منى ومن ظلمى ، احبتنى لدرجة الجنون وانا تعاظمت عليها ومننت عليها بأن تظل زوجتى ، فماتت عمرا ، لم اكن ادرى انها ستفارقنى وكنت على يقين اننى سأتركها وكان هذا الاحساس هو المخرج الوحيد لتبرئتى من ظلمى لها بأن تعيش بعدى وتسامحنى وتطلب لى الرحمة ، ولكنها ماتت وتركتنى اناجيها واناديها واطلب منها السماح والمغفرة ..
نصف قرن ونيف وان امارس ضدها كل انواع الفجور وهى تصبر ، اذيقها كل انواع المجون وهى ترضى .. خمسون عاما وخمس وانا كما انا الحاكم، الآمر ، الناهى ؛ وهى تتعبد فى ملكوتى. وتسبح بجبروتى، وانا اتعالى عليها واعلو .. خمس وخمسون عاما وانا ملك وهى آمة، وانا اظلم ، واغدر، واخون، وافجر ؛ وهى تتحامى بين ضلوعها بقلب يغفر .. خمس وخمسون عاما وانا فاجر وهى عفيفة تتمنى منى ان ارحمها ، وبفضلها اشكر ، ولكنى رافض وماض فى طريق الظلم ولا ارجع ، تمضى هى وتركتنى لانها زهدت فى اصلاحى وتعبت .. انظر انا اليه وكلى دهشة مما يقوله ؛ هل هذا هو الرجل الذى رفض ان يتزوجنى من اجلها وخوفا من اتعاسها ؟ كيف للعدل والظلم ان يجتمعا ؟ كيف للين والشدة ان يمتزجا ؟ اقترب منه وامسح دموعه وهو ينتقض حزنا والما ..

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط