قد يقول قائل إن إدخال مادة الذكاء الاصطناعي والبرمجة للصف الأول الثانوي خطوة مهمة لتأهيل الطلاب للمستقبل الرقمي، وهذا صحيح، لكن لنواجه الحقيقة: أغلب الطلاب في أسيوط، خاصة في القرى النائية، لا يستطيعون الوصول حتى إلى أبسط خدمات الإنترنت. فكيف يمكنهم التعلم واستخدام الأدوات الرقمية المطلوبة لمادة الذكاء الاصطناعي، بينما الشبكات ضعيفة أو معدومة؟ الإنترنت هنا ليس رفاهية، بل شرط أساسي لممارسة أي تعليم عصري، وغيابه يجعل المادة الجديدة مجرد شعارات بلا قيمة عملية.
قد يقول البعض إن التكنولوجيا وحدها لا تكفي، وأن التعليم يتجاوز مجرد الوصول إلى الإنترنت أو تعلم مهارات محددة، وهذا على حق، التعليم يجب أن يكون تجربة متكاملة تشمل التفكير النقدي والثقافة العامة، لكن الواقع في أسيوط مختلف. المدارس تعاني من ضعف المعامل، وانقطاع الإنترنت المتكرر، والمعلمون لا يحصلون على تدريب كافٍ لتطبيق مناهج حديثة، لذلك يظل الطلاب بعيدين عن أي تجربة تعليمية متقدمة.
والسؤال الأكبر هنا: لماذا لا يُعطى الاهتمام للتقنيات الأساسية مثل شبكات الاتصالات، بينما تُصنع مشروعات شكلية مثل أبراج الحمام؟ قد يقول البعض إن هذه المشاريع الرمزية تهدف لإظهار نشاط الإدارة، وهذا صحيح جزئياً، لكن المواطن العادي لا يهتم بهذه الرموز، بل يهتم بخدمة بسيطة: اتصال ثابت، تعليم مستقر، صحة متاحة، ومياه وكهرباء مستمرة. هذا التناقض بين الأولويات الرسمية واحتياجات الناس يجعل أسيوط عالقة بين المظهر الرمزي وغياب الجوهر التنموي.
إذا انتقلنا إلى الصحة، قد يقول البعض إن المحافظة توفر خدمات طبية أساسية، وهذا جزئيًا صحيح، فمستشفى البداري المركزي يقدم خدمات محدودة، لكن الحقيقة أن هذه الخدمات بالكاد تلبي الحد الأدنى من الاحتياجات. المقارنة مع مركز طهطا في سوهاج تظهر مفارقة صارخة: مستشفى عام مجهز بأدوات وخدمات متعددة، بينما البداري يعاني من نقص في الأطباء والمعدات، والمرضى مجبرون على السفر لمسافات طويلة للحصول على علاج مناسب. هذه المفارقة ليست مجرد أرقام أو تقارير، بل واقع يومي يعيشه المواطن، ويؤكد أن الفقر هنا ليس فقط اقتصاديًا، بل رقميًا وصحيًا وتعليميًا في آن واحد.
قد يقول قائل إن تحسين التعليم والصحة يحتاج إلى وقت وموارد كبيرة، وهذا صحيح، لكن الحلول الواقعية موجودة ويمكن البدء بها فورًا. يمكن تحسين البنية التحتية الرقمية عبر التعاون مع شركات الاتصالات لتقوية الشبكات في القرى، وتوفير أجهزة للطلاب الأكثر احتياجًا، وهذا سيتيح لهم الوصول إلى التعليم الرقمي. كما يمكن دعم مستشفى البداري المركزي بمعدات وأطباء إضافيين، وإقامة شراكات مع مستشفيات المحافظات المجاورة لتبادل الخبرات وتحسين الخدمات الصحية.
قد يقول البعض إن هذه الحلول مكلفة أو معقدة، وهذا صحيح جزئيًا، لكن هناك خطوات عملية يمكن تنفيذها بسرعة، مثل إنشاء معامل متنقلة للمدارس النائية، وتوفير برامج تدريبية للمعلمين، وإنشاء مبادرات مجتمعية لتدريب الشباب على مهارات العصر الرقمي. هذه الخطوات لن تحل كل المشاكل بين ليلة وضحاها، لكنها توفر أساسًا حقيقيًا لبداية تحول أسيوط الرقمي والخدماتي، بدلاً من الاكتفاء بالمشروعات الشكلية الرمزية.
أحب أن أشارك القارئ الكريم: أسيوط ليست عاجزة عن التغيير، لكن غياب الإرادة عند المحافظ وسوء ترتيب الأولويات جعلها محافظة على هامش التنمية الرقمية والصحية والتعليمية. ما لم يحدث إعادة ترتيب شامل، ستظل أبراج الحمام تتصدر المشهد بينما أبراج الاتصالات والإنترنت والشفافية في الخدمات تغيب. إدخال الذكاء الاصطناعي في المناهج لن يكون سوى عنوان جميل على ورق، ما لم تُوفّر البيئة الرقمية، وتُحسّن الخدمات الصحية، وتُعالج الفجوات الأساسية في الحياة اليومية للمواطن.
قد يقول قائل إن التغيير يحتاج إلى زمن طويل، وهذا صحيح، لكن النقاش هو البداية، ومع وجود إرادة واضحة واستثمار مركّز، يمكن لأبناء أسيوط أن يعيشوا في محافظة متوازنة رقميًا وصحيًا وتنمويًا، يواكب بقية محافظات مصر، ويتمكن الطلاب من التعلم والتدريب واكتساب المهارات التي يحتاجونها للمستقبل، بعيدًا عن التهميش والعزلة. النقاش الآن أفضل من الانتظار، والتطبيق الجزئي أفضل من الاكتفاء بالشعارات.