الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

لماذا شاهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فيلم الجوكر؟




من تقاليد رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية على مر السنوات عرض أفلام في البيت الأبيض سواء كانت في دور العرض بالفعل أو سيتم عرضها والإعلان عن هذه الأفلام للصحافة والتعليق عليها وضع جائز. ومن بضعة أيام أعلنت وسائل الإعلام الآمريكية عن مشاهدة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لفيلم الجوكر مع أفراد عائلته وبعض العاملين في البيت الأبيض. وكان التعليق على الفيلم مقتضبًا حيث جاءت أحد المصادر المقربة من الرئيس ترامب قائلًا إنه اعحب به دون تفاصيل.

فيلم الجوكر والمأخوذ عن رواية كتاب كوميدي أصبح الفيلم الأمريكي الأعلى إيرادًا في تاريخ السينما الأمريكية في تصنيفات الإفلام R بمعني إنه فيلم للكبار. الفيلم انتجته ورنر برازرز الشهيرة Warner Bros وأخرجه المخرج تود فيلبس ومن بطولة النجم الأمريكي ياكين فينكس الذي لعب دور آرثر فليك أو الجوكر. الفيلم حقق إيرادات وصلت فوق المليار دولار أمريكي ومازال عرضه مستمرًا في دور العرض في العالم حتى الآن.

بالرغم من تأكيد مخرج الفيلم تود فيلبس في أكثر من لقاء على إن الفيلم غير سياسي إلا إنه به جرعة سياسية في غير إطار أحداث تاريخية معينة وبه كثير من الإسقاط السياسي على أحداث عالمية حدثت وتحدث. ومن لديه بعض الوعي أو الإدراك السياسي سيلمس ذلك مؤكدًا في تفاصيل الفيلم حتى وإن لم يبوح صناع الفيلم بذلك.

إن محاولة فك طلاسم أو شفرات الفيلم بالكامل يظلم الفيلم والمشاهد معًا. عند مشاهدتك الفيلم لا تجعل أيه انطباعات تتحكم في انطباعاتك الشخصية. الفيلم مادة سينمائية خصبة تخاطب جميع الفئات وجميع الاتجاهات الفكرية وجميع التوجهات في الحياة وتتفق أو تختلف مع الفيلم فلا بد لك أن ترى زاوية لك فيه. وقد لا يكون لك رأيًا في السياسية ولكن قد يكون لك رأيًا في قضايا التوازن المجتمعي أو قضايا الأمراض النفسية والعقلية وتأثيرها ولهذا لن يرى أحدًا هذا الفيلم من نفس الزواية. ونصيحتي أن تشاهده من رؤيتك الشخصية.

الفيلم من النوعية التي تخاطب سيكولوجي المجتمعات بشكل عام وتكوينها وبالرغم من أن الأحداث تشير إلى وقوعها في الثمانينات من القرن الماضي إلا إنها تلمس الحاضر أو الواقع الذي عاشته وتعيشه بعض المجتمعات. فقد تم توفيق بعض المشاهد لتواكب الحاضر. وفي الفيلم في حادث قطار مترو الأنفاق على سبيل المثال قتلت شخصية الجوكر ثلاث شباب من ذوي البشرة البيضاء ولكن الحادثة في الحقيقة حدثت لثلاث شباب من ذوي البشرة الداكنة أو السمراء ولطالما عانت الولايات المتحدة من قضايا العنصرية ولكن مع وجود ما تسمى العائلة البيضاء في البيت الأبيض الآن قرر صناع الفيلم الإنقلاب على العنصر الأبيض وجاء ظهوو علامة “خطر” مرتين في الفيلم واضحة واحدة منها بعد حادث محطة المترو بعد قتل الثلاث شباب والثانية في مشهد للمسرح وهو يستعد لاغتيال مقدم برنامجه التليفزيوني المفضل. فهي رسالة واضحة لصعود مواجهة اجتماعية عنصرية بين فئات المجتمع مجددًا ولكنها معكوسة بعد ما كان الضحية ذات البشرة السمراء.

لعبت المرآة دورًا هامًا في الفيلم وهي عالم قائم بذاته في الفيلم فهي عالم الجوكر الضحية والقاتل في ذات الوقت. وعند التحول من الضحية إلى القاتل يجلس أمامها يُطمئن نفسه وهي لحظة الإعداد النفسي للتحول ووضع قناع المهرج على وجهة. المرآة هي المجتمع التي يراه الجوكر من خلالها ويحاول مخادعته ويحاول يرسم وجه المهرج فيها ليقنع نفسه ويقنع المجتمع.

الفيلم ينافش فكرة التأمين الصحي لمرضي الأمراض العقلية والنفسية. في بداية الفيلم كان آرثر فليك أو الجوكر يتمتع بخدمات الرعاية الاجتماعية التي تدفع ثمن علاجه وطبيبتهثم تم منعها بسبب قرارات الميزانية الخاصة بالمدينة. مرة أخرى يضع بطل الفيلم في مواجهة مع المجتمع ومسئولياته تجاه المرضى وللمشاهد للحكم على الوضع هل الحكومة قصرت في حق علاج الجوكر بالنسبة لمرضه النفسي وهل هذا يعطيه حق التحول لقاتل؟ هنا يطرح الفيلم تورط المرض النفسي والجريمة وعقوبتها ودور الحكومة أو الإدارة الأمريكية وتقصيرها وهل هذا دافعًا لتحمل الجريمة ؟

وخلال أحداث الفيلم تنشأ حركة ثورية للقضاء على الأغنياء يقودها الجوكر أو شخصية المهرج. وتنشأ حركة في الشارع يلبس أصحابها أقنعة أو ماسكات على الوجه تقتل الأغنياء وتتبعهم قد يعتبرها البعض حركة ثورية ويعتبرها البعض حركة فوضوضة ولكن الغريب أن يرسمها صناع الفيلم في شوارع مدينة جوثام في نيويورك وهي بالمناسبة مدينة من وحي الخيال وهي مدينة شخصية بات مان الشهيرة ولكن لا علاقة بين الجوكر وبات مان. وعند البحث عن معنى كلمة جوثام نجد إنها مدينة الماعز في انجلترا حيت يتم تربية الماعز والإسقاط السياسي بين بين حركة القناع أو الماسك الفوضوضية ومدينة جوثام وربطها بالأغنياء ووجوب قتلهم واضح. لأنهم اصحاب الحظيرة. ولكن حدوث أحداث الفيلم في بلد الرأسمالية الأولى في العالم غريب وخصوصًا أن هذه التركيبة من الثورات التي لا يظهر لها زعيم أبدًا كما هو في الفيلم ظهرت في دولًا أخرى في العالم. هذا الجوكر الذي يتلاعب بأقدار الشعوب تحت مسميات كثيرة لا يظهر أبدًا وعندما تحاول الإمساك به تهرب هويته ويظهر مليون مهرج مثله.

الصراع بين التعاطف مع المرض العقلي والنفسي الذي صاحبه جرائم وفوضى واضحة وعالم الأغنياء المنظم الأصم خط لم يحسمه الفيلم للمشاهد فهي مساحة تُركت للمشاهد ومن هنا يأتي خيال التفاعل مع أحداث الفيلم.

دور الشرطة ذات الحضور الواضح في معظم إنتاج الأفلام الأمريكية كان هزيلًا وكأنه مقصود أن تظهر الشرطة الأمريكية لها دور هامشي وهو ليس حقيقًا في الواقع الأمريكي وصنع الأحداث في الثمانيات كان في مصلحة صناع الفيلم لأن أسقط دور الكاميرات في الأماكن العامة في البحث عن دور الجوكر أو الجوكر الحقيقي. وكأنه أراد التأكيد على ضعف دور الشرطة الأمريكية وقت حدوث الثورات. السؤال هل هذا يحدث في أمريكا؟ بالطبع لأ ولكنه حدث في دولًا أخرى.

سلط صناع الفيلم الضوء على الإعلام ولكنه تم حصر هذه الوسائل في جهاز التليفزيون نظرًا للحقبة الزمنية ونظرًا لتعقيد الأمر لو توسع الأمر فجاء التليفزيون رمزيًا. جاء برنامج التوك شو اليومي الكوميدي مرآة أخرى يرى فيها الجوكر نفسه يوميًا وكانت المرآة التي تزيف واقعه وتعطيه بعض المسكنات لممارسة المجد الزائف ثم العودة للواقع المؤلم. وهي الآلة التي اغتالها الجوكر في نهاية الفيلم بقتل مقدم البرنامج الذي يتابعه بشغف. والآلة الإعلامية قد تبدو قاتلة للوقت وصانعة لبعض اللحظات الكوميدية ولكنها ليست قاتلة للألم.

الفيلم تحاصره أفكار الإزدواجية من جميع الجهات التي تجعل من مهمة حكم المشاهد على كل شئ ليست باليسيرة فهذا الجوكر الذي بدأ الفيلم برغبته في التخلص من الألم كانت أمه تناديه بهابي طول الفيلم أي السعيد وهي قمة الإزدواجية الاجتماعية. الإزدواجية بين واقع نراه من وجهة نظرنا وواقع يراه الآخرون. وبينه تضيع هويتنا الحقيقة فنرتدي هذا الماسك أو قناع الوجه حتى يسقط الواقعين تحت هذا القناع. تحدث الفوضى النفسية حين نسقط في شق الهروب من الواقع وتحديد هويتنا.

قتل الجوكر كل من كان يراه سعيدًا وهو ليس بسعيد غارق في الألم بما في ذلك والدته … وقتل كل ما كان يتوقع منهم السعادة .. قتل وسيلة ترفيهه اليومية التليفزيون وبرنامجه المفضل … قتل عمله عندما أخفق في التعامل مع مشاكله وقتل زملاء العمل .. قتل المجتمع وأثار ثورة مرتدي الأقنعة وزعم إنه زعيم ثورة. ثورة الفوضى. وقتل من أدعت والدته إنه أبيه وترك أخيه الصغير يعيش ليعيش نفس مأساته دون أب … ثم جاءت دعابته الأخيرة بقتل نفسه في برنامجه الكوميدي المفضل تأكيدًا منه أن كل أنواع الكوميديا منفصلة تمامًا عن الواقع بما فيهم هو آرثر فليك والذي عرف نفسه لأول مرة في الفيلم قبل قتل نفسه كالجوكر بناء على طلبه.

للمخرج الحق في نفي صفة السياسة عن الفيلم حتى لا يتم تصنيفه ولكننا بصدد فيلم سياسي عميق يخاطب أفكار وحقبة زمنية ترعرعت فيها ثقافة المهرج الذي أعطاه صناع الفيلم صفة المرض النفسي أو العقلي حتي يخفف من وطأه جرائمه واختطف مشاهدي الفيلم في مدينة جوثام وهي مدينة القطعان في الحظيرة التي يسيطر عليها الأغنياء المباح اغتيالهم واغتيال مشروعاتهم لصالح أصحاب ثورة الأقنعة ويتزعمها شخصية مجهولة لها وجه مهرج قاتل. من ذكاء صناع الفيلم احتمائهم في مدنية نيويورك أو في الولايات المتحدة بشكل عام لأن حدوث هذه الأحداث في أي مدينة كان سيتسبب في مشاكل واتهامات بمحاولة إثارة البلبلة.

المجتمعات التي لا تواجه حقيقة واقعها بايجابية شديدة ستواجه مليون مهرج وجوكر يرتدي القناع ويختبأ تحت ألم المرض وكما وصف أرثر فليك حالته في سياق الفيلم كل ما أملكه هو افكار سلبية .. هؤلاء المهرجين لديهم القدرة لتحويل أي واقع إلى فوضي …

شركة الإنتاج وارنر برازرز العالمية قدمت فيلمًا بعيدًا كل البعد عن وردية الحلم الأمريكي الذي تقدمه شركات إنتاج مثل شركة ديزني في أفلامها وصدمت العالم بعالم من الفوضي ومهرج لديه القدرة على إحداث فوضي وقتل نفسه تاركًا فيروس الجوكر يجري في الدماء ليسيل المزيد من الدماء وصدمت وارنر العالم بإيرادات الفيلم التي فاقت التوقعات وبتفاعل العالم مع الفيلم وشخصيته.


المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط