الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

لو خُيّرْت سأختار جنة مجدي يعقوب


يظل الدين، الذي كان يجب أن يكون من أسباب تجميع البشر، سببا كبيرا؛ بل الأكبر لتفريق البشر، وسببا للنزاع والتقاتل، ظهر ذلك على مر الأزمان والعصور، ورفعت راية الدين لتبرير اعتداء، وخوضت حروب قُتِل فيها ملايين البشر باسم الدين.

ومازال، رغم التطور الإنساني، الذي يسعى لأن يعيش البشر جميعا معا في سلام على الأرضية الإنسانية المشتركة، هناك العديد، بل ربما الأغلبية ممن ينتسبون للأديان، يكون هذا الانتساب هو أحد أهم أسباب الشقاق بين البشر، فلم نعدم في كل عقيدة من العقائد، من يعادي بقية البشرية لا لشيء سوى لأنهم يعتقدون عقيدة مغايرة.

بديهي أن يقتنع كل منتمٍ لعقيدة بأنها الصواب، وإلا لم يكن منتميا لها منتسبا إليها، وطبيعي أيضا أن يرى كل مقتنع بدين أن غيره من الأديان الأخرى غير مقنعة، وطبيعي كذلك أن يرى كل إنسان أن دينه صحيح لا يأتيه الشك ولا الباطل وإلا لما ظل على هذا الدين، كل ذلك حتى هذه اللحظة، يمثل فقط قناعة الشخص بدينه، وعدم قناعته بسواه من أديان، وحتى هذه اللحظة، والأمر يبدو منطقيا ولا شيء فيه.

وإن كنا نتحدث عن مطلق البشر، فهذا يعني أن عليّ أن أمنح ما منحته لنفسي لغيري كذلك، وأن أدرك أنه كما أنني أُومن بصدق رسولي وصحة ديني، أن أتفهم إيمان غيري بصحة دينه وصواب عقيدته، وأبعد من ذلك فعليّ أن أقبل أن يطالبني غيري بما أطالب غيري به، هكذا تكون المعادلة منضبطة وعادلة، بمعنى آخر، ليس مقبولا - إن أردنا عدلا - أن يقتنع أصحاب دين بعينه أنهم على حق وأنا على الآخرين اتباع هذا الحق، ولا يمنحون الآخرين هذا الحق، في أن يقتنعوا أنهم على حق ومن حقهم أن يقتنعوا أن على الآخرين اتباعهم في هذا الحق.

هنا تصبح الإشكالية أكثر تعقيدا، حيث يطلب أصحاب كل دين الآخرين باتباعهم، هذه المطالبة التي لو اقتصرت فقط على كونها دعوة، رغم خطورتها، لأمكن للبشر العيش سويا، لكن الأمر يزيد تعقيدا يصل إلى التدمير والاقتتال، إذا ظن أصحاب عقيدة ما أن عليهم "إدخال" الآخرين في دينهم، هنا يجب عليهم بنفس المنطق أن يتفهموا بل يمنحوا نفس الحق لأتباع الديانات الأخرى بأن من حقهم "إدخالهم" في دينهم الذي يرونه الحق كل الحق.

وإذا استمر الأمر كذلك، فإننا لن ننتهي من الدخول في معارك، ولن تسلم أية بقعة في الأرض من الصراع، ولن يمكن بحال من الأحوال للبشر العيش سويا، متخذين من القيم الإنسانية المشتركة أسسا لحياة إنسانية أقل صراعا وأرقى فهما لطبيعة الحياة، وأعظم فائدة لجميع بني البشر.

إذًا إشكالية الدين عموما؛ كعقيدة يتخذها الإنسان، من الخطورة بمكان إن أصبح التعصب للدين هو الغالب، وإذا توارت خلف سحب هذا التعصب المتراكمة السماحة التي تدعو إليها كل الأديان، وإذا حجبت الظلال الكثيفة للفهم الضيق للأديان تلك الحقائق الإنسانية التي يأتي اختلاف البشر في اللون والجنس والقومية والعقيدة في مقدمتها، أما إَنْ تعامل أصحاب العقائد المختلفة مع بعضهم البعض بفهم عميق لها، يعلون من خلاله القيم العليا التي أتت جميع الأديان لتؤكد عليها وتنشرها، وهي قيم الحق والخير والعدل والصدق والأمانة والجمال، فإنه هنا فقط يمكن أن تصبح الأديان سبب تعايش، ودافعا للتطور الإنساني، وسبيلا للارتقاء بالبشرية، ذلك الارتقاء الذي قامت به بالفعل الأديان في ثوبها الناصع قبل أن يدنسه فكر المتعصبين.

إن المتعصبين يضعون العالم كله في مواجهة معهم، ويزعمون، لأنهم متعصبون، أنهم فقط على حق، وأنهم فقط من يملكون الحقيقة المطلقة، وأنهم فقط من يحق لهم الحكم على الناس أجمعين، منصبين أنفسهم نوابا عن الله سبحانه وتعالى، معتبرين أنفسهم المتحدثين الرسميين والحصريين باسم السماء.

وإن كان ذلك هو شأن كل المتعصبين في كل الأديان، فإنه يتمثل أوضح ما يكون التمثيل في الجماعات الإرهابية، لأن هذه الجماعات أخذت على عاتقها القيام بما لم يقم به حتى الله سبحانه وتعالى: الذي جعل هناك اختلافا وتباينا بين خلقه في العديد من الأشياء، والتي منها الدين، "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ". فهم يأخذون على عاتقهم تصحيح - حاشا لله - الخطأ الذي يعتري الخَلْق الذي هو الاختلاف، وهم في ذلك يضعون أنفسهم في مرتبة فوق رب العالمين.

هؤلاء المتعصبون ينظرون من زاوية حادة للغاية، ومن ثم يرفضون كل من لم يعتقد عقيدتهم، بل كل من لم يفهم فهمهم، وهم في ذلك ينفون كل حسنة عمن سواهم، ويلصقون كل نقيصة عمن دونهم، وإن كانوا قد رفعوا أنفسهم فوق رب العباد، فليس لديهم أدنى مشكلة في أن يقوموا بدور الله بديلا عنه جل شأنه، فيأخذون اختصاصه، ليحددوا من هم الناجون من عذاب الله، الذين سينعمون في جنات الخلد، ويلقوا في الجحيم كل من أرادوا له العذاب المهين، وهم في كل ذلك يسوقون أسبابا من تأويلات لفهم دين الله الحكيم، الله الذي ليس هو بظلّام للعبيد، "وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا".

فإذا كان الله سبحانه وتعالى ليس ظلّاما للعبيد، ولا يظلم أحدا، فهل يمكن لهؤلاء المتعصبين الإرهابيين أن يحصوا عددا ما قام به أي إنسان؟ وهل علم هؤلاء المتعصبون الإرهابيون علما دقيقا ما صدر عن فلان من فعل أو قول؟ حتى يضعوا أنفسهم مكان الله سبحانه وتعالى لكي لا يظلموا، ولكي يحكموا بالقسط الذي هو حكم المولى عز وجل.

لا أستطيع -كما يود هؤلاء المتعصبون الإرهابيون- أن أفهم كيف يخلق الله إنسانا، يحدد له أسرته، ويحدد له بيئته ويحدد له عقيدته، التي يتشرّبها طفلا صغيرا، ويؤمن بها شابا يافعا، ويعيش بها رجلا وكهلا، وينفذ تعاليمها، ويحب الله، ويحب الخلق الذي صوره الخالق، ويقدم الخير، ثم يأتي إرهابي متعصب يحكم عليه، بأنه في نار جهنم عقابا من الله الخالق العادل الذي لا يظلم. وأن يحرّموا عليه الجنة؛ تلك الجنة التي هي مقصورة عليهم وعلى من هم على شاكلتهم من الإرهابيين.

من هؤلاء المتعصبون الإرهابيون خرج علينا أحدهم وهو المدعو وجدي غنيم الذي هو إرهابي عتيد رسمي بحكم المحكمة، خرج علينا متقمصا دور إله ظالم مستبد، ليعلن حكما لا رد له - وهل لحكم الآلهة من راد- وأنه بفرمان إلهي يحرّم الجنة على طبيب الإنسانية السير الدكتور مجدي يعقوب؛ معلنا أن الجنة هذه خلقت لأمثاله بالطبع.

وهنا -دون كثير تفكير - قفز سؤال يلح على ذهني: ماذا سأختار، إذا توفر لنا الاختيار، هل سأختار جنة فيها وجدي غنيم، أم نارا بها السير الدكتور مجدي يعقوب، وأنا على علم بالشخصين: أحدهما يداه ملطختان بالدماء، والآخر إنسان عمل على أن يظل قلب الإنسانية نابضا بدم الحياة وروحها؟ فإذا بي أختار دون أدنى تفكير تلك النار التي تجمعني بهذا القلب الكبير التي سأشعرها في ذلك الوقت أجمل من كل جنان الإرهابيين القتلة. فهناك فرق أن يعيش المرء منا مع من يسعى بكل قوة للحفاظ على الحياة، أو مع من يكون شغله الشاغل هو الموت.



المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط