الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

وداعا عمارة.. سيف الإسلام المجدد


عبر حياة حافلة بدأت في السابع والعشرين من رجب 1350 هـ- الثامن من ديسمبر عام 1931، ولد المفكر الإسلامى الدكتور محمد عمارة بقرية صروة التابعة لمركز قلين بمحافظة كفر الشيخ، وحفظ القرآن وجوَّده في كُتَّاب القرية، وبدأت تتفتح وتنمو اهتماماته الوطنية والعربية وهو صغير، وكان أول مقال نشرته له صحيفة "مصر الفتاة" بعنوان "جهاد عن فلسطين"، ثم حصل على الليسانس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية 1965 م من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، ثم حصل على الماجستير في العلوم الإسلامية تخصص فلسفة إسلامية من نفس الكلية عام 1970، ثم على الدكتوراه في العلوم الإسلامية تخصص فلسفة إسلامية عام 1975 من الكلية نفسها.

مر الدكتور عمارة بتحولات فكرية عديدة، من الماركسية إلى المعتزلة وغيرها حتى قيل عنه: «إن محمد عمارة هو واحد من كوكبة لامعة صادقة هداها الله فانتقلت من الفكر الماركسي إلى الإسلام، وكانت هذه الكوكبة هي ألمع وجوه اليسار فأصبحت ألمع وجوه التيار الإسلامي، ودليلا على أن خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام».

حقق لأبرز أعلام اليقظة الفكرية الإسلامية الحديثة، جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، وألف الكتب والدراسات عن أعلام التجديد الإسلامي مثل: الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا، والشيخ محمد الغزالي، ورشيد رضا، وخير الدين التونسي، وأبو الأعلى المودودي، ومن أعلام الصحابة علي بن أبي طالب، كما كتب عن تيارات الفكر الإسلامي القديمة والحديثة وعن أعلام التراث من مثل غيلان الدمشقي، والحسن البصري.
ومن بديع مؤلفاته في معركته الفكرية مع الغرب المتربص بديننا: العلمانية بين الغرب والإسلام، الخطاب الديني بين التجديد الإسلامي والتبديل الأمريكاني، والغرب والإسلام أين الخطأ.. وأين الصواب؟ والشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية، وكتاب مستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية، أزمة الفكر الإسلامي الحديث، الإسلام والمستقبل، نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام، معارك العرب ضد الغزاة، الغارة الجديدة على الإسلام، تجديد الدنيا بتجديد الدين، صراع القيم بين الغرب والإسلام، مستقبلنا بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية، وغيرها الكثير.

وكانت استراتيجيته الفكرية تنم عن المسلم الواعى، المعتز بدينه، المبين لحقيقة جوهره العظيم لأعدائه، سيف الإسلام المجدد، وليس مدافعا عنه، فرأيناه يكشف فاضحا سوءة الغرب وعورته، موضحا لهم سبب عدائهم لديننا الإسلامى، وكيف أنه الدين الخاتم الذى لا لبس ولا شبهة فيه، ولكنها أحقادهم التي أعمت أبصارهم وأصمت آذانهم وقفلت على أفئدتهم، فكتب مما كتب "مواجهة ظاهرة كراهية الإسلام"، فأكد منصفا أن مشكلتنا ليست مع المواطن الغربى أو الحضارة الغربية، بل مع مؤسسات الهيمنة الغربية السياسية والدينية والإعلامية.

أسهم المفكر الاسلامى محمد عمارة أيضا في العديد من الدوريات الفكرية المتخصصة، وشارك في تحقيق 13 عملا كبيرا ابتداءً من الأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي، وانتهاءً بكتاب السنة والبدعة للشيخ محمد الخضر حسين، كما شارك في العديد من الندوات والمؤتمرات العلمية، ونال عضوية عدد من المؤسسات الفكرية والبحثية منها: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر، عضوا بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، عضوا بهيئة كبار علماء الأزهر، رئيسا لتحرير مجلة الأزهر، المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، مركز الدراسات الحضارية بمصر، المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية مؤسسة (آل البيت) بالأردن، كما كان عضوا باللجنة التأسيسية لدستور 2012 في مصر.

اتسمت كتابات الدكتور عمارة وأبحاثه التي أثرى بها المكتبة العربية والتي وصلت إلى مائتى مؤلف بوجهات نظر إسلامية تجديدية وإحيائية، مسهما في حل المشكلات الفكرية، محاولا تقديم مشروع حضاري نهضوي للأمة العربية والإسلامية في المرحلة التي تعيش فيها، فكان أهم ما يميز فكره إيمانه ودفاعه عن وحدة الأمة الإسلامية، وتدعيم شرعيتها في مواجهة نفي البعض لها، حتى نعَت العلمانيون دكتور عمارة بأنه المنظًر للحركة الإسلامية، فيرد عليهم: ذلك شرف لا أدًعيه وهم لا يقصدون منه المديح وإنما استعداء السلطات ضدي.

كما ينتمي عمارة إلى المدرسة الوسطية ويدعو إليها، قائلا عنها إنها "الوسطية الجامعة" التي تجمع بين عناصر الحق والعدل من الأقطاب المتقابلة فتكوّن موقفا جديدا مغايرا للقطبين المختلفين ولكن المغايرة ليست تامة، فالعقلانية الإسلامية تجمع بين العقل والنقل، والإيمان الإسلامي يجمع بين الإيمان بعالم الغيب والإيمان بعالم الشهادة، والوسطية الإسلامية تعني ضرورة وضوح الرؤية باعتبار ذلك خصيصة مهمة من خصائص الأمة الإسلامية والفكر الإسلامي، بل هي منظار للرؤية وبدونه لا يمكن أن نبصر حقيقة الإسلام، وكأنها العدسة اللامعة للنظام الإسلامي والفكرية الإسلامية، والفقه الإسلامي وتطبيقاته فقه وسطي يجمع بين الشرعية الثابتة والواقع المتغير أو يجمع بين فقه الأحكام وبين فقه الواقع، ومن هنا فإن الله جعل وسطيتنا جعلا إلهيا: ﴿جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾.

حصل المفكر الاسلامى محمد عمارة -رحمه الله - على العديد من الجوائز والأوسمة والشهادات التقديرية والدروع، منها جائزة جمعية أصدقاء الكتاب، بلبنان سنة 1972م، وجائزة الدولة التشجيعية بمصر سنة 1976، ووسام التيار الفكري الإسلامي القائد المؤسس سنة 1998م، وغيرها الكثير.

وها هو ذا مفكرنا الإسلامى الكبير الدكتور محمد عمارة يلبى نداء ربه، ولا نملك إلا التصديق والإيمان بقضائك وقدرك يا ربنا، فجزى الله خيرا فقيدنا وعالمنا جزاء ما قدم، ولتبقى حياته العلمية نبراسا ينير للسالكين من بعده دروبهم وسبلهم، ولتروى لمثله أجَّلُ الحكايات التي تحكي للحاضر ما قدمته من عظيم علمه وعصارة فكره الدعوى الاسلامى، وندعوك ربنا أن تتقبله بما يليق بك كرما وإحسانا، معترفين لك أن البدء منك، والمنتهى إليك، فارحم اللهم أحزان محبيه، وألهمنا الصبر والسلوان، والرضا بالتسليم لك، واجمعنا معه في فردوسك الأعلى، وشرفنا وإياه بالنظر لوجهك الكريم، وطبت حيا وميتا عالمنا الجليل، ورحمك الله عالمنا الجليل وأسكنك الفردوس الأعلى، وغفر لك، وجزاك خير الجزاء عن الاسلام والمسلمين.. ولا نقول إلا ما يرضى ربنا "إنا لله وإنا إليه راجعون".    
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط