الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

فیروس كورونا.. صرخة في وجه البشریة


وكأن الأرض فاض بها الكیل، ولم تستطع احتمال المزید من لهو البشر، وكأن الأرض لم یعد في استطاعتها تحمل الإنسان بإحساسه الزائف بسیطرته المطلقة كي نتوقف، صرختها ابتلعت العالم، فتوقفت الحیاة.

هذاالإنسان بغطرسته أوقفته عطسة وعطلت كل حیاته حتى إشعار آخر، وتمنى باكیا بحسرة أن تعود حیاته كما كانت، عرفت البشریة حجمها الحقیقي أمام كحة، وشویة رذاذ في الهواء واختفى كل المتبارین بتفاهتهم وحیاتهم المصطنعة وأدواتهم التسویقیة لكل ما لیس حقیقي أمام المسئولیة الحقیقة وقرارات تقریر المصیر.

وأصبحت كل أمنیانهم الآن النجاة، أدواتهم المصطنعة لا تصنع طوق النجاة، فالنجاة في الحقیقة، في الوعي، في القدرة على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، ولیس الظهور بصور مغایرة للواقع عندما اختفت مشاعر الحب وظهر الحب التجاري المصطنع، فظهر رذاذ لفیروس جدید یعید ترتیب القریب والبعید منك، ویعید ترتیب أولویاتك.

یفرق كل شيء ویضع حدودا في أحقیة بقاء الأشخاص في حیاتك، فنحن لا نحیا في فقاعة الزیف عند الموت، الموت یتطلب الأمانة والصدق مع الذات والنقاء، فهو الحقیقة الوحیدة في حیاة البشر، كلنا نعلم أن لنا أجلا،
عندما ازدادت مشاعر الكراهیة والأحقاد والضغینة بین البشر، أجبرنا الفیروس على البعد عن تعبیراتنا المشینة وتذمرنا المستمر، ارتداء كمامات لتضع حدا عندما ازداد ضجرنا من الحیاة وتململنا منها المستمر، بینما تحیطنا كل معاني الجمال والحب والإلهام والحكمة الكونیة من حولنا، سلبتنا الحیاة أبسط تفاصیل حیاتنا كعناق أحبتنا وقربنا منهم حتى لا نؤذیهم بالعدوى.

وعندما بات العنف أقرب ردود أفعالنا وفي استطاعتنا أن نتناسى أو نتجاهل أو نسامح، لكل تحركاتنا فلم یعد لدینا حریة اختیار رد الفعل، لأن رد الفعل الآن وضع للفيروس حدا هو أن لا تتحرك من مكانك حتى لا تدمر من حولك بنقلك فیروس لا تراه، لم تعد الأرض تحتمل المزید من التلوث السلوكي للبشر، قلة صبرك وعدم قدرتك على التحمل وضجرك المستمر واجهه فیروس غیر مرئي حكم علیك بعدم الحركة حتى لا تنشر سلوكك في كل مكان.

عندما زاد استسهالنا في التعبیر عن مشاعرنا وأغلبها مزیفة لمصالح أو لمزایدات، كان الحكم السكون التام والصمت، عندما أصاب الفیرورس أهم أعضاء أجسادنا أصاب منبع ومصدر الأكسجین لیقتل كل نفس نتنفسه في زیف وتكبر وغطرسة، فهذا الأكسجین الملوث هو ما یمد دماءك بالحیاة التي تحولها لواقع حیاتنا جمیعا.

نعم أصاب البشریة وباء قاتل، ولكن صرخة الأرض في وجوهنا ما هي إلا عملیة استشفاء للأرض نفسها التي أنهكناها بقلة تقدیرینا وعدم التعبیر عن حبنا لها وبمشاعرنا البغیضة تجاه بعضنا البعض وبكثرة الاصطناع والكذب على الذات والمجتمع، الأرض تداوي نفسها بإتلاف ما تتنفسه أنت أیها الإنسان، قررت أن تقتل منبع ما تفرزه لها بقلة امتنانك لأبسط تفاصیل حیاتك وبلهوك الخالي من أي معنى حقیقي.

الفیروس أراد أن یصیب ما یغذي خلایاك لأنك دمرتها، فهكذا حكمت علیك الطبیعة بالتدمیر الذاتي لما اعتقدت أنت أنه الحیاة، رسمت لنفسك حیاة بعیدة عن الحیاة، فظهر نصیر الحیاة، فیروس لا نراه، ولا عجب أن الاحتواء الوحید لفیروس كورونا هو ألا تغادر منزلك وأن تعزل نفسك، وأن تبتعد عن دوائرك قلیلا، لم تعد الأرض تتحمل المزید مما تحمله ومما اجتماعیا تراه وتسمعه.

أصبحت نعمة الحیاة للإنسان تلوث في كل الاتجاهات، لا عجب أن نسبة التلوث انخفضت في ووهان بالصین بعد أن انعزل سكانها في منازلهم، لا عجب أن التلوث انخفض في میاه فنیسیا بإیطالیا بعد أن قبع الجمیع داخل البیوت، إنها محاولة استشفاء إجباریة من الأرض لنفسها.

لا عجب أن أساس النجاة من هذا الوباء هو العزل، والعزل روحا وجسدا  سیخرجنا من هذا البلاء، العزل معناه التخلص والتطهیر والتنقیة والتعقیم، الهزة التي أصابت البشریة لیست بعشوائیة، هزة للمراجعة في العزل الإجباري
ما بعد تأدیة مهمتها، ستننهي یوما، وأكاد أجزم أنه بعد انتهاء هذه الغمة سیكون قد تغیر الكثیر في أوجه حیاتنا
ً وتحول مسارها لتضمن بقاءها.

الأزمات لا تحدث صدفة للبشریة، تأتي لتعلمها دروسا ولیس فناءها كما یبدو لنا الأمر، مازلنا في مرحلة محاولات الاحتواء والاحتماء، وصدمات الخسائر المادیة، وصدمات رحیل الأحباء بالوباء، وصدمات تغیر أوجه الحیاة التي كنا تستخف بها كل یوم ولا نعلم كم هي ثمنیة لا تقدر بثمن.

ولكن سینتهي الأمر ربما بتغییر وجهة حقبة أو تغییر فكر أجیال جدیدة أصابها وهم أمام عدو خفي اسمه فیروس كورونا، معجزات التكنولوجیا والتي وقفت عاجزة تماما، قامت الأرض بواجبها تجاه نفسها، وقد قامت بعزلك أیها الإنسان بفیروس، عزلت ما ضجرت منه، للكون طاقة تتحدث إلیك كل ثانیة وقد عبث بها الإنسان أكثر مما یجب.

فجاء قرار عزلك بفیروس حتي تسمع وترى من جدید وتعطي معاني جدیدة للحیاة ویتمكن منا السكون الروحي حتى نخلد مرة أخرى إلى حكمته وجماله، حتى نقرر أن نصلح من أنفسنا، حتى نتعامل مع الكون على أننا جزء من طاقته وإلا سیقوم بإبادتنا لأننا لا نستحق الحیاة، والتي قصرنا في حقها كثیرا.

ضع مكانك مكان منظومة الكون حادة التفاصیل والدقة والجمال والحكمة، ستجد أنه بعد یوم تستحق الصرخة الفیروسیة، الكون یكره الإنسان ومنظومة حیاته المتدهورة، والقبح والصخب والاصطناع، ولا یتجاوب مع هذه القیم ومن ثمه یخلق مضادات قاتلة.

الكون لا یتوانى عن تجدید منظومته بتفاصیل قد تبدو مدمرة ولكنها طریقته، فالحرائق والبراكین والزلازل والسیول لغة قد یفسرها البعض على أنها قوى تدمیریة وهي في الحقیقة تجدید وإحلال في معظم الوقت للطبیعة من حولنا، ولكن منظومة الإنسان أكثر تعقیدا، فالمرض في العادة یوقفه والموت یحبس أنفاسه للأبد.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط