الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

يوم ما قتلوا فرج فودة


كشأن كل يوم في قسم الحوادث كنت في صالة تحرير الأهرام، أجريت اتصالا تليفونيا معتادا بالنجدة لمتابعة الأحداث، رد النقيب محمد سيد أحمد مشرف عمليات النجدة في الفترة المسائية يومها: "عندى لك خبر خطير.. الكاتب فرج فودة اتضرب عليه نار على ناصية شارع أسماء فهمى عند كلية البنات في مصر الجديدة!".

وكان الوقت تقريبا بعد الرابعة عصرا في يوم من أيام شهر يونيو 1992 وهذا يعتبر وقتا ميتا بالنسبة للعمل بالجريدة لأن كل الأخبار في كل الأقسام تكون في مرحلتها قبل الأخيرة تمهيدا للطبع وأي خبر مهم بالكاد يلحق ما يسمى غيار سريع وهو إلحاق الخبر بالجريدة في أثناء الطبع.

واتصلت بالأستاذ حسن أبو العينين (رحمه الله) رئيس قسم الحوادث والقضايا في منزله وكان قد غادر الجريدة قبل حوالي ساعة لأخبره بما حدث.

وكما هو متبع اتصلت بإدارة النقل بالمؤسسة لتجهيز سيارة وأسرعت إلى قسم التصوير لاصطحاب مصور وذهبت على الفور إلى الأستاذ حسن فؤاد (رحمه الله) وكان مدير الديسك المركزي للأهرام لتوقيع مذكرتي السيارة والتصوير كإجراء روتينى.

وانتظرت لدقائق لحين حضور السيارة للنزول مع المصور وكنت أعاود الاتصال بأحد الضباط من مصادرى الصحفية والذي أخبرنى أنه تم الإمساك بأحد القتلة وكان حاول الهرب بموتوسيكل وأن هناك شخصا آخر تمكن من الهرب ولا يعرف إن كان هناك معاون لهما أم لا والدكتور فرج الآن في غرفة العمليات في مستشفى الميرغني القريب من مكان الحادث وكان بصحبته أحد شباب الحزب وأظن كان اسم الحزب "المستقبل" الذي يترأسه فودة -  تحت التأسيس - بينما اسم الشاب المرافق "وحيد رأفت" وأصيب بطلقة في فخده وكان الاثنان في طريقهما لسيارة الدكتور فودة أسفل المبنى الذي يقبع به مكتب فرج فودة حيث ينتظرهما السائق وعند ناصية الشارع انهمر عليهما وابل من الرصاص أسرع بعده شخصان لركوب موتوسيكل للهرب.

وعندما وضعت السماعة فوجئت بالزميل الكاتب الصحفي والشاعر محمد البرغوتى وكان نائبا لرئيس قسم حوادث الأهرام المسائي -لا حظ أن البرغوتى كان كذلك معي في حادث جمال حمدان بعدها بأقل من سنة- وبادرنى منزعجا: "بيقولوا إنه اتضرب نار على فرج فوده" فأجبته في هدوء شديد استفزه - كالعادة-: "عارف واتصلت بالجراج والعربية طالعة والمصور جاهز".

 لكن البرغوتى استشاط غضبا من هدوئي وقال كالمحبط من ردى عليه: "يعنى أنت عارف وقاعد هادي كده" وأمسكنى من كوعي متعجلا "قوم ننزل ناخد العربية من الجراج" لكن لم يكن من وقت للاستفزاز الساخر، فانطلقنا إلى مصر الجديدة ومررنا على موقع الحادث في طريقنا للمستشفى وكان هناك جمع من الناس لا يزالون بالمكان وعلى الجانب الآخر كان مجموعة من أبناء المنطقة وكانوا تقريبا في المرحة الثانوية راحوا يقصون علينا كشهود عيان، كيف وقع الحادث وكيف طارد سائق سيارة فرج فودة بشجاعة وبطولة وفدائية، القاتلين حتى صدمهما فسقط أحدهما على الأرض بينما فر الثانى لائذا بالهرب واختفى وسط حالة من الهرج والمرج سيطرت على المنطقة المحيطة بالحادث وقد تمكن الأهالى من الإمساك بالقاتل الذي أصابه سقوطه من الموتوسيكل برضوض مع شبه إغمائه وقاموا بتسليمه إلى أميني شرطة تابعين لقسم مدينة نصر التابع له منطقة الحادث.

وفي المستشفى كنت أنا ومحمد البرغوتى وكان معنا مصفى الجمل من قسم حوادث الأهرام المسائي وكان على صلة الدكتور فرج وعرفنا أن حالة الدكتور فرج خطيرة بسبب النزيف وأن الأطباء يصارعون الزمن في غرفة العمليات وفي أثناء حديث أحد الأطباء الذين استقبلوا حالة الدكتور فرج أشار إلى غرفة وقال إن بها الشاب الذي كان يرافق الدكتور فرج ودخلنا إليها ولم يكن في الطرقة سوانا ففوجئنا بالشاب يخرج من وراء حاجز مرتديا جلبابا طبيا ولما عرفناه بأنفسنا قص علينا في سرعة ما حدث ورفع ذيل الجلباب الذي يرتديه ليرينا أثر الطلقة في مقدمة فخده وكانت عبارة عن فتحة سوداء غائرة من أثر الدخول ولم تكن عليها أي أربطة أو ضمادات فالتقط الزميل المصور صورا له.

وثارت ثائرة اللواء فادي الحبشي مدير مباحث القاهرة عندما علم بوجودنا ولكنى لم أهتم بثورته حيث كنت متعجلا للحاق بالطبعة الثانية للأهرام، بينما الوقت كان متسعا أمام البرغوتى والجمل لاستكمال المشادة معه، حيث لا تطبع الأهرام المسائي قبل السادسة صباحا.

وعندما هبطت إلى مدخل المستشفى كان قد تجمع عدد من الناس من بينهم اللواء رضا عبد العزيز مدير أمن القاهرة وبعض قيادات الأمن وبجوارهم عدد من مشاهير في مجال الفن من بينهم على ما أذكر عادل إمام ومحمد نوح وبجوار مدخل المستشفى كانت تقف أصغر أبناء الدكتور فرج وكانت طفلة في حوالي العاشرة ولكن على صغر سنها كانت لبقة وتتحدث كشابة ناضجة العقل "طبعا هي بنت مين" وكانت رغم قلقها متماسكة بشجاعة نادرة بشكل لا يناسب طفولتها وعندما التقط لها المصور صورة قالت بعتاب "هو ده وقته؟!" وبالطبع أدرك تماما طبيعة العمل الثقيل للصحفي في تلك المناسبات.

وفي أثناء وقوفنا تقدم منا الفنان محمد نوح رحمه الله وكان رجلا كريم الخلق جم التواضع ذا ثقافة واسعة وحدثت معه طويلا وكان قلقل على حال صديقه الدكتور وكنت أعرف مدى علاقتهما منذ أن كنت أتردد لفترة قصيرة على مقر حزب الوفد الجديد في المنيرة، حيث كان فودة ونوح من الأعضاء المؤسسين والبارزين في حزب الوفد الجديد قبل أن يتركه فودة احتجاجا على تحالف الوفد والإخوان ذلك الإجراء الشاذ المناقض لمسيرة الحزب وسيرة الجماعة!.

وكان لابد من المرور على قسم مدينة نصر لمعرفة آخر التطورات فوجدت هناك الأستاذ حسن أبو العنين الذي سبقنا إلى هناك، فهو يسكن في شارع بمصر الجديدة قريبا من المكان.

وعدنا إلى الأهرام وتوالت الأحداث

فماذا حدث بالضبط ولماذا قتلوه؟!

كان أحد أهم أسباب عدم استغرابي من قتل فرج فودة هو أننى توقعت قتله مع كثيرين في أعقاب ضجة أثارها مقال على ما أذكر نشره في مجلة أكتوبر أو في الأخبار، تحت عنوان "اللهم لا حسد" سخر فيه من سلوكيات وخاصة الهوس الجنسي للمنتسبين إلى الجماعات المتطرفة عموما وخص فرع الإخوان في تونس ببعض العبارات الموجعة وكان - رحمه الله- صاحب أسلوب لاذع شديد السخرية.

وأكثر ما يغيظ جماعة الإخوان وفروعها من الجماعات المشابهة، الاستهزاء بهم والسخرية من طريقة إظهار تدينهم وما يغيظهم أكثر هو الحديث عن اهتماماتهم الجنسية فهم يتحملون أن تطلق عليهم الرصاص وأنت تعترف بأنهم متطرفون دينيا ومتشدددين في العقيدة، على أن تتحدث عنهم بشكل يبين أنك تستهزئ بهم ولا تخشى منهم.

وتتفق أو تختلف مع فرج فودة –ومن من شق عن قلب أخيه- إلا أنه لم يكن يهاب جماعة الإخوان ولا غيرها فكان في كل كتاباته عنهم يقرر أن الدين لديهم مجرد مطية لتحقيق أغراض وأن تدينهم كاذب ومزيف، فهو رغم جرأة آرائه لم يجاهر أبدا بالعداء للإسلام ومع ذلك لم يخف دعوته للعلمانية التى كان يصر أنها لا تتعارض مع مبادئ الإسلام الحقيقي الذي يخفيه هؤلاء، فكل ما كان يردده لا يتطرق إلى الأصول، فحتى سخريته من بعض الآراء الفقهية وهجومه على الخلافة، كان فقط طعنا في سلوكيات بعض الفقهاء والخلفاء ولم يدع أحدا أنهم فوق النقد والتقييم ولا قداسة لأحد وعموما هو لم يقترب على حد علمي من الخلفاء الراشدين "وحتى هؤلاء قابلون مبدئيا للمراجعة والنقد ممن يملك الحجة والبرهان وكل يؤخذ منه ويرد إليه إلا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وفي المناظرة الشهيرة التى سبقت حادث اغتيال فودة بفترة طويلة واكتظت خلالها قاعة معرض الكتاب بمدينة نصر ورغم اختلاف الرؤى والأطروحات إلا أنها في النهاية كانت مناظرة رائعة ولكن لم أحضرها غير أنه أعجبنى فيها فودة كثيرا ولم يعجبنى كذلك في تعميمه ومحاولة إلصاق سلوكيات شاذة ممن أطلق عليهم خلفاء - سواء أمويين أو عباسيين أو عثمانيين – وكأن تاريخ الإسلام هو تاريخ هؤلاء وهو ما اعترض عليه الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله- ووصف معلومات فودة بأنها من كتاب ألف ليلة وليلة.

ولكن لفرج فودة سلسلة كتب كنا نتداولها في أثناء مرحلة الجامعة، هاجم فيها بشدة شركات توظيف الموال التى كادت تسيطر على مقاليد السوق وتتحكم في مقود الاقتصاد المصري وجعلها معركته التى صدقته فيها الأحداث وانتصر الواقع له فيها  ليكشف مدى انتهازية هذه الجماعات وتلاعبها بالدين.

لكنى أظن أن هناك شيئا آخر كان يغيظ جماعات الإرهاب منه وهو أنه كان يمسك بيديه "سبحة" فقد رأيته يمسك السبحة بعينى عندما كنت أحضر محاضرات له في مركز الوفد للدراسات السياسية بمقر الحزب السابق في 39 شارع الشيخ على يوسف بالمنيرة والذي كنت أتردد عليه للاستماع دون الالتحاق وكنت أيامئذ في أول سنوات الدراسة في كلية الآداب جامعة عين شمس، ولكن علاقتى به لم تزد عن مناقشات قليلة في قاعة المحاضرات الصغيرة في بمبنى الحزب وكان عدد الحاضرين في كل مرة قليل بما يسمح بالتواصل المباشر والمناقشات الهادئة والثرية، فمن هذا المكان تعرفت على المفكر فرج فودة وتوقعت يوما قتله بيد الإرهاب ولكن ما لم أتوقعه هو أن أتلقى كصحفي نبأ اغتياله فيما بعد ذلك ببضع سنين!.

ونكمل في المقال القادم إن شاء الله.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط