شكل تفشي كورونا تهديدًا واضحا لاقتصادات العالم وتفاعلاته السياسية والجيوسياسية وذلك نظرا لأن إجراءات مكافحته هي إجراءات بطبيعتها معادية لمعظم مسببات انتعاش الاقتصادات، ومع التطورات المتسارعة فإن هناك نظاما عالميا قد يجد له في فيروس كورونا وجهة جديدة لإعادة تحديد ورسم المواقع للقوى الكبرى وإعادة تحديد لعبة المصالح والاولويات الجديدة لمرحلة ما بعد العولمة.
فقد أفرزت ازمة كورونا عددا من الأمور الكاشفة التي من شأنها المساهمة في ترسيم محددات مرحلة ما بعد الكورونا، ففي الوقت التي تظهر فيها أمريكا في موقف الدولة الانتهازية المتخبطة ،وأوروبا التي تقف أمام هذا الحدث كقوة دولية متراخية وغير متماسكة وضعيفة، تبرز الصين على الساحة الدولية و ترتقي في مواقفها وقدراتها وكل هذه مؤشرات تدل على بدء تغير في الموقف الدولي بل وإعادة تشكيل الموقف الدولي وإن لم يكن مؤشرًا قويا على قرب انهيار المنظومة الدولية لكن يظل مؤشرا هاما على تغيير كبير في طبيعة وشكل وحجم العلاقات الدولية لما بعد كورونا ولعل أهمها:
-بلورة البراجماتية السياسية: حيث انعكفت الدول على تحقيق مصالحها الوطنية وتفعيل الانعكاف القومي والعزلة الاستراتيجية بما يعني انحسار العولمة فقد أقدمت بعض الدول على فرض سياسات حمائية من ضمنها فرض قيود على تصدير الأغذية والمنتجات الزراعية الخاصة يها خشية من تعرض احتياطاتها الاستراتيجية للنفاذ بسبب الطلب المتزايد عليها وذلك على غرار روسيا التي أعلنت تعليق جميع صادراتها من الحبوب بشكل مؤقت وكذلك كازاخستان وفيتنام .
-هشاشة التكتلات الاقليمية: كتراجع الاتحاد الاوروبي فقد حظرت المانيا تصدير الأقنعة الطبية وأجهزة التنفس، على الرغم من أنها عضو فاعل داخل الاتحاد الذي من المفترض أن يتمتع بسوق واحدة ، كما قامت الحكومة الفرنسية بالاستيلاء على جميع الأقنعة المتاحة.
- أزمة اقتصادية عالمية على كافة الأصعدة: فهناك صعوبة في السيولة واختلال جانب العرض بسبب الاعتلال والوفيات، بسبب جهود الاحتواء التي تقيد الحركة والانتقال، وارتفاع تكلفة ممارسة الأعمال بسبب تقييد سلاسل التوريد، وتضييق الائتمان ويتزامن ذلك مع تراجع الطلب أيضا بسبب زيادة حالة عدم اليقين، واشتداد الحذر والتحوط، وجهود الاحتواء، وارتفاع تكلفة التمويل الذي يقلص القدرة على الإنفاق.
- تفكك تحالفات الحرب النفطية التي أشعلتها السعودية ضد روسيا، والتي تمثلت في إغراق الأسواق بملايين البراميل، وبأسعار متدنية وذلك للانتقام من موسكو التي رفضت تمديد اتفاق “أوبك بلس”، إلى جانب استخدامها الكميات الإضافيّة من أجل إفلاس شركات النفط الصخري الأمريكي.
ومع الوقوف علي أبرز متغيرات ومعطيات الأزمة فهل ستغير ازمة كورونا خريطة التفاعلات الدولية والجغرافيا السياسية بما يسمح لمصر بالعودة إلى موقعها وثقلها العالمي؟ فالمتطلع لتعاطي الدولة المصرية مع أزمة انتشار فيروس كورنا وترسيخها لمبدأ التعاون والتكامل المرتكز علي اعتبارات انسانية والذي يمكن البناء عليه لتحقيق اهداف سياسية واستراتيجية كبري. فعلي صعيد السياسة الخارجية فقد عمقت مصر من دورها الريادي فى المنطقة والعالم ووطدت علاقاتها التاريخية مع بعض الدول التي أصابها الوباء وتفشى فيها فقد سارعت مصر الى مد يد العون الى الصين مع بداية انتشار كورونا بمساعدات طبية بمرافقة وزيرة الصحة وكانت زيارة لافتة أثارت انتباه دول العالم وكانت محل تقدير القيادة الصينية؛ ومن الممكن الاستفادة من تلك الازمة فى تعزيز العلاقات المصرية – الصينية في عدد من الملفات المشتركة أبرزها الاستثمارات الصينية في القارة الافريقية ومشروع الحزام والطريق. وانطلاقًا من سياسة المعاملة بالمثل التي تعتمدها الصين، فمن المتوقع ان هذه الاستجابة قد ترفع مستوى العلاقات الثنائية مع الصين.
وفيما يتعلق بالمساعدات المصرية إلى إيطاليا، فقد دفع ذلك الحكومة الإيطالية الى الموافقة علي بيع أسلحة من بينها فرقاطتان حربيتان من طراز "فريم". إلا انه من الضروري تعظيم الاستفادة من الموقف المصري إزاء اكتشافات البحر المتوسط وكذلك لترسيخ التحالف المصري – الإيطالي ضمن تفاعلات منتدي شرق المتوسط.
وفي السياق ذاته وعلى الرغم من ان هناك عددا من الانعكاسات على الاقتصاد المصري جراء تفشي فيروس كورونا والمتمثلة فى خفض تحويلات العاملين المصريين في الخارج والتي تبلغ قيمتها 25 مليار دولار سنويا والتي تأثرت بالاجراءات الاحترازية المتخذة من قبل دول العالم إضافة إلى ذلك فقد تراجعت قيم صادرات مصر من الملابس الجاهزة خلال الربع الأول من العام الحالي بنسبة 8%لتبلغ 372 مليون دولار، في مقابل 406 ملايين دولار خلال الربع الأول من 2019.
إلا ان الإدارة المصرية نجحت فى إدارة ازمة كورونا بما يمنع إعطاء أي فرصة لتغلغل تداعيات كورونا السلبية بقوة إلى الاقتصاد، حيث اتخذت العديد من التدابير مثل وضع حد للسحب اليومي والإيداع لتجنب الضغط على سوق العملة، وكذلك شهادات ذات عائد الـ15% التي توفرها البنوك الحكومية، فضلا عن تدابير اسقاط الديون ، بجانب العديد من المبادرات لدعم القطاع الخاص والسياحة والقطاع العقاري والمشروعات الصغيرة، كل ذلك خلق رواجا وساعد على تعزيز معدلات السيولة داخل الاقتصاد وهو الامر الذي انعكس فى اشادات المؤسسات الدولية وآخرها تصنيف موديز فقد ثبتت وكالة «موديز» تصنيف مصر الائتماني عند درجة «B2» مع منحها نظرة مستقبلية مستقرة مستبعدة أن تترك تداعيات فيروس كورونا آثارًا سلبية حادة على مصر مثلما هو متوقع لأسواق المال العالمية الأخرى.
لعل التحسينات التي أجرتها الحكومة المصرية على صعيد تحقيق التنمية وفعالية السياسات النقدية خلال الأعوام الأخيرة ساعدت على جعل الاقتصاد المصري أكثر مرونة لامتصاص التقلبات والصدمات داخل السوق العالمي وكذلك دعم ائتمان مصر السيادي في مواجهة التحديات التي تفرضها أزمة تفشي كورونا الحالية.