انكفأ أسير عينيها على نفسه يفكر فيها حتى تصلَّبت عيناه نحو نافذته الزجاجية كعادته كل يوم ينتظر عودتها؛ لكنه في تلك المرة لم يكن فقط ينتظرها بغية الحديث والثرثرة كالعادة،
بل كان أيضًا يتأمل جمال عينيها ويفكر في تلك الليلة الماضية عندما كان يحدثها عن رقتها و جمال عينيها حتى غلبهما النوم،
لكن حلمًا جميلًا شاركته الجميلة إياه قد أيقظه مبكرًا من نومه،
واكتملت سعادته عندما وجدها قد تركت له خلف زجاج النافذة صورة لها غير مكتملة الملامح قبل أن تغادر، كانت تلك الصورة المعلقة خلف الزجاج لا تزيد عن كونها قصاصة صغيرة من صورة لا يبدو منها سوى عينها التي تطل من خلف زجاج النافذة،
لكنها بالنسبة له اختصارًا لكل معاني الروعة والجمال،
كانت تلك الصورة لفتة معبرة تكفي لبث السعادة والأمل في نفسه، فهي وإن كانت صامتة إلاَّ أنها تحكي الكثير مما بداخلها فظل يتأملها ويقرأ ما وراء النظرة في انتظار عودتها وبداخله من الأحاديث والاستفسارات ما يكفي لقضاء ليلته القادمة معها في الثرثرة، لكن المساء قد أتى وبدأ الليل من خلفه يلملم أوراقه ويستعد للرحيل وهي مازالت غائبة، ومرت الساعات والأيام وتوالت الأسابيع واحدًا تلو الآخر وهو مازال كطفل ينتظر أمه خلف النافذة يترقب عودتها، وينتظر ما تجود به الليالي القادمة، لكنها مازالت غائبة!!
ترى ماذا حدث، وما الذي جعل قوانين الكون هكذا تتبدل،
ويختفي القمر كلياًّ في ليلة الخامس عشر فجأة وبلا مقدمات؟!
ظل يسأل نفسه ويعاتب سوء حظه ويستنكر قسوته،
لكنه قلبه رغم ذلك لم يسأم الانتظار يومًا ولم ييأس للحظة،
حتى أن فكرة اليأس في عقيدته مازالت من المحرَّمات،
فمن بين مرارة الانتظار كان يستشعر نشوة الأمل وهو يتخيلها تدق بابه ويسمع دبيب خطواتها من بعيد يقترب رويدًا رويدًا حتى تدنو من نافذته،
و تحدثه عن الأسباب و الظروف التي أجبرتها على الغياب،
ثم تغدق عليه بفيض من مشاعرها التي طالما كانت مكتومة،
كان يتخيلها وهي تباغته بشعورها اللامتناهي واحتياجها الشديد إليه، ويبتسم كلما رأى تلك النظرات التي تقفز من عينيها نحوه ويستشعر السعادة التي تغمرهما على حدٍ سواء عندما تفصح له للمرة الأولى عن مكنون شعورها وحبها الشديد له،
فتأخذه لأرض جديدة، وأماكن بعيدة ما أدركتها عينه من قبل،
إلى جنة خضراء لم تطأها قدم إنس ولا دنستها ذنوب البشر،
أو تحملهما عنقاء الأساطير بين الكواكب والمجرات في فضاء فسيح يستوطنه،
فيسافر يومًا بين النجوم ويومًا ينام بحضن القمر .
لكن شيئًا من ذلك حتى الآن لم يحدث وظل الغياب مسيطرًا يفرض سطوته، وتتابعت اللحظات و مرت الأيام و الأسابيع أمام عينيه كوشاح حريري ناعم حتى انفلت من عمر الزمان شهر تلو الأخر دون أن تأتيه الأيام بجديد يريح قلبه أو يزيح عنه بعضًا من القلق.
لكنه لا يجرؤ على التفكير في سوءٍ قد حلَّ بها،
أو أن مكروهًا قد أصابها، ولم تطاوعه نفسه على افتراض أن أذىً قد لحق بها!!
هكذا هم المحبون دائمًا يبحثون عن الجوانب الإيجابية في كل شيء حتى في أحلك الظروف وأصعب المواقف،
ولا يفترضون إلاَّ ما يبعث على الأمل؛ كي تستمر المودة،
ولا ينضب العطاء، فتحلو الحياة رغم تقلباتها المستمرة.
وظل البطل يصارع الخوف و القلق متمسكًا بالأمل ليصل إليها،
ولكن حال بينهما طريق طويل من خلفه بحر يسمى بحر الغضب، أنشأهغيابها المفاجئ دون أن تبدي من الأسباب شيئًا يعينه على الصبر، لكنه قرر أن يقطع ذلك البحر منفردًا وظل يسبح ويبحث عنها حتى وصل نهايته فوجد تلك النهاية بداية لبحر أخر من الخوف عليها عندما بدأت وساوس شيطانية تراوده بأن ضرًا قد مسها، ولا يملك من الأدوات ما يساعده على اجتياز أمواج هذا البحر العاتية، غير أنه لا ينفك أبدًا عن النظر إلى النافذة ما بين الحين والآخر؛ ربما عادت إليه وأشرقت شمس حياته من جديد وأضاءت محبوبته كالقمر سماءه بعد أفولٍ.
كم تمنى لو تأتي فيطوى كتاب الخوف والقلق المفتوح بين يديه مذ غابت دون أن تتحرك صفحاته،
أو يمتلك جناحين فيقطع البحرين بحثًا عنها ...