الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

المهندس أدريان دانينوس


ليس كل من أحب مصر كان مصريا.. وليس كل أجنبى كارها أو غاصبا أو حتى مجرد مستفيد من خيرها، تاريخ مصر زاخر بعشاقها ومحبيها ومنهم من تفانى فى خدمتها من أجل مجدها وعزتها.. لمجرد أنهم عشقوا ترابها وشربوا من نيلها .

أدريان دانينوس خير مثال للانتماء الصادق لبلده الثانى مصر، فهو من الذين أسهموا فى صنع تاريخ مصر إنه صاحب فكرة إنشاء السد العالى .  
ولد أدريان دانينوس فى الإسكندرية أول ابريل سنة 1887، والده ألبير دانينوس باشا عالم المصريات الشهير وكان مديرا للدائرة السنية بالإسكندرية فى عهد توفيق .

عائلة دانينوس من العائلات اليونانية العريقة التى نزحت إلى مصر أوائل القرن التاسع عشر ، وإستقرت بها منذ عهد محمد على باشا، وتأثرت بالثقافة الفرنسية التى ازدهرت فى مصر خلال تلك الفترة، وتدريجيا انقطعت صلتها باليونان، وأصبح كل اهتمامها وإنتمائها لمصر، تشبع أدريان بحب مصر والمصريين .

 إستكمل تعليمة فى فرنسا مع ابن عمه الأديب المشهور بيير دانينوس الذى أصبح عضوا فى الأكاديمية الفرنسية بباريس (مجمع اللغة الفرنسية)، حصل أدريان على أعلى الدرجات العلمية فى علوم الزراعة والقانون .

ترك له والده ميراثا كبيرا بعد وفاته سنة 1925 ، إلا أنه كرس أمواله للإنفاق على أبحاثه ، حول إيجاد وسيلة لإيقاف تدفق كميات من مياه النيل التى تهدر فى البحر المتوسط أيام فيضان النيل، ومنع الكوارث السنوية الناتجة عن الفيضان والتى تتلف الزراعات والمنازل،وتتضرر منها القرى الواقعة على ضفتى النيل .

رأى أدريان ضرورة بناء سلسلة من السدود على مجرى نهر النيل، مع قنوات فرعية تسهم أيضا فى رى مساحات جديدة من الأراضى البور لإستصلاحها للزراعة. وبذلك يتم التحكم فعليا فى تدفق مياه النيل خلال مجراه الطبيعى ووقف ضياعها فى البحر المتوسط . لذلك تعاون مع مجموعة كبيرة من العلماء العالميين المتخصصين فى تصميم وبناء السدود النهرية ودعاهم إلى مصر على نفقته الخاصة. ومنذ الثلاثينات وهو يقوم بالدراسات المتأنية لإنشاء السدود واختيار أنسب المواقع لها. وبالفعل انتهى 
 
من عمل الرسومات والتصميمات اللازمة مع المواصفات الفنية لتحقيق هذا المشروع الضخم، والذى اعتبره الجميع من أعظم المشروعات، خاصة و أن سلسلة السدودالتى   بالمشروع  كانت تتميز بنظام الأهوسة ، تسمح بالانسياب الطبيعى للطمى على امتداد نهر النيل .
انتهى أدرينان من إعداد المشروع تماما حيث تكلف أكثر من مائة ألف جنيه ذهبا فى عهد الملك فؤاد، فتوجه به إلى الحكومة إلا أن الحكومة فى ذلك الوقت لم تدرك أهمية المشروع وفائدة تنفيذه متعللة بضعف الميزانية بالإضافة إلى الروتين وغيرها من المعوقات. وتمضى السنوات وأصبح المشروع فى طى النسيان إلى أن تولى الملك فاروق العرش، فإذا بنشوب الحرب العالمية الثانية سنة 1939 وإنتهائها 1945، ثم الأزمات العالمية جراء الحرب وظل المشروع سجين الأدراج .

ويعاود الأمل أدريان مرة أخرى عقب ثورة يوليو 1952، ويعرض المشروع سنة 1954 على الرئيس جمال عبد الناصر فى مقر مجلس قيادة الثورة وينبهر عبد الناصر بالمشروع ومنذ ذلك الوقت توطدت الصلة بينهما، فقد أدرك عبد الناصر أهمية المشروع للأجيال القادمة ولمصر بشكل عام،  بل أراد أن يمثل هذا المشروع العملاق أعظم إنجازات الثورة .
 وفى مذكراته" البحث عن الذات" أشار الرئيس محمد أنور السادات إلى تلك الفترة التى تعرف خلالها على المهندس أدريان دانينوس قائلا:" وعندما تعود بى الذاكرة إلى تلك الأيام أرى أمام عينى المهندس اليونانى الأشقرالشعر الزائغ العينين الذى كان يتردد علينا فى القيادة بالعباسية فى أى وقت وبدون سابق ميعاد- كان اسمه على ما أتذكر دانينوس وكان كل مرة يقتحم مقرنا يتفوه بعبارات محمومة فحواها دائما فكرة واحدة –وهى إن النيل عند منطقة أسوان يجب أن يغلق بسد عال – وكان تمسكه بالفكرة وإلحاحه عليها والبريق الذى يشع من عينيه يوحى إلينا أنه مجنون دون شك، لكن التعبير الذى كان يعلو وجهه دائما لم يدع مجالا للشك بأنه يؤمن بفكرته إيمان العابد بالله عز وجل " .

مما دعى مجلس قيادة الثورة إلى تكليف المهندس محمود يونس مستشار المجلس بدراسة الفكرة ،وقد رآها فكرة رائعة ،إذا ما أثبتت الأبحاث على النيل فى تلك المنطقة صحتها، طالبا الموافقة على بدء الأبحاث مع بيوت الخبرة العالمية ، وهكذا نشأت فكرة السد العالى .  

 كلف الرئيس عبد الناصر المهندس دانينوس بأن يتوجه إلى الولايات المتحدة الأمريكية للتفاوض مع كبرى الشركات الأمريكية التى كانت مستعدة للتنفيذ لكى يحصل منها على كراسات حديثة تحدد فيها تكاليف المشروع الفعليه .ومنحة تفويض كتابى بذلك ، وأصدر تعليماته إلى سفير مصر بواشنطن لتغطية كافة مصاريفه طوال رحلته .

 وقد أنجزدانينوس مهامه على أكمل وجه ، وسلم عبد الناصر كراسات الأسعار التفصيلية التى قدمتها مجموعة الشركات الأمريكية المتخصصة والتى أبدت الاستعداد لتنفبذ المشروع بمجرد إعداد التمويل اللازم، والإتفاق على شروط السداد .

 ابدت الحكومة الأمريكية إستعدادها لتمويل المشروع من خلال قرض من البنك الدولى بمجرد توقيع العقد المالى بين الدولتين . وفى مطلع عام 1956 ، إجتمعت وفود  التفاوض المصرية والأمريكية لهذا الغرض . وقد أعرب فريق التفاوض الأمريكى عن قلقه وشكة فى أن مصر سوف تكون مؤهله لتوفير موارد كافية من العملات الصعبة لمواجهة سداد أقساط القرض فى مواعيد الاستحقاق المتفق عليها . 

وكانت مصرلم يكن لديها ما يكفى من العملات الصعبة ، حيث إنها عقدت اتفاقية طويلة المدى للتبادل التجارى مع تشيكوسلوفاكيا لمقايضة الحاصلات المصرية الرئيسية مثل القطن وغزل القطن والبصل والأرز وغيرها من المحاصيل، فى مقابل استراد أسلحة من تشيكوسلوفاكيا .

أثار هذا الموقف غضب الرئيس عبد الناصر واعتبره تدخلا سافرا فى سياسة مصر فقطع المفاوضات مع الحكومة الأمريكية التى كانت تستهدف الضغط على مصر للعدول عن استيراد الأسلحة، وخاصة إن كان ذلك من إحدى دول الكتلة الشيوعية مثل تشيكوسلوفاكيا. وتوترت العلاقات بين مصر وأمريكا حتى بلغت زروتها منتصف العام. ومن ناحية أخرى كانت بريطانيا لا تزال تحتفظ ببعض قواعدها فى منطقة القناة ، ولذلك فقد فاجأ عبد الناصر العالم بتأميم قناة السويس .

وفى خطابه الشهير بالمنشية بالإسكندرية فى 26 يوليو 1956 ، وعن مشروع السد العالى قال عبد الناصر :" بدأنا نفكر فوجدنا أن مياه النيل يتجه إلى البحر ويذهب إليه هدرا كل عام ، قلنا نستطيع الاستفادة من مياه النيل ، وجاء شخص وعرض علينا مشروع السد  العالى عام 1952 ووضع موضع البحث عام 1953، هذا المشروع 

موجودا منذ عام 1914م، -وكانوا يقولون إن هذا الرجل مجنون – ووضعنا هذا المشروع موضع الدراسة،ثم قابلتنا عقبة التمويل، المشروع صالح أن يعطينا حوالى مليون ونصف مليون فدان زيادة فى الأراضى الزراعية، ينفذ فى عشر سنوات ويعطينا كهرباء مليار كيلو وات زيادة، إذن فهو مشروع له دخل وله تأثير فى رفع مستوى المعيشة، قلنا فلنتجه إلى تنفيذ هذا المشروع بجانب المشروعات الأخرى الخاصة بتنمية الإنتاج ".
وغداة تأميم قناة السويس، كانت فرصة العمر للإتحاد السوفيتى لكى يفرض وجوده ونفوذه فى مصر، وبالتالى فى الشرق الأوسط، و القارة الأفريقية، وبدأت الحرب الباردة تزداد اشتعالا فى ذلك الوقت حينما أعرب الإتحاد السوفيتى للرئيس عبد الناصر عبر القنوات الرسمية عن استعداده لتنفيذ مشروع بناء السد العالى بجميع مراحله، وهوالأمر الذى لاقى موافقة من عبد الناصر، لأن تلك الدول الكبرى، كانت الوحيدة المتبقية فى الساحة لتقديم كافة ما يلزم لتحقيق هذا المشروع العملاق .

 إلا أن الاتحاد السوفيتى اشترط  أن يتم التنفيذ بواسطة مهندسيه وخبراؤه وطبقا لما سيقررونه مع اختيارهم لموقع بناء السد العالى، ووضعهم للرسومات والتصميمات والمواصفات كما سيحددونها، متعللين بسابق خبرتهم فى بناء سدود عديدة للاتحاد السوفيتى، وفى آسيا.. لذلك رفض الاتحاد السوفيتى أن يأخذ بعين الإعتبار أيا من التصميمات أو الاختيارات أو المواصفات التى سبق أن أعدها المهندس دانينوس وخبراء الغرب . 
  وحتى لا تضييع هذه الفرصة ، فقد قبل عبد الناصر ما طلبه السوفيت لحرية وعلى الفوربدأت الأعمال التمهيدية بواسطة مهندسى وخبراء الإتحاد السوفيتى .  

أصيب المهندس أدريان دانينوس بصدمة شديدة وإحباط بعد أن غض الطرف عن  مشروعه الأصلى الذى نادى به واجتهد لتحقيقة بكل تصميم لسنوات طويلة ، لذلك استدعاه الرئيس عبد الناصر لتكريمه ومكافأته عن جميع تضحياته وجهوده السابقة وسلمة شيكا بمبلغ ثلاثين ألف جنية تعبيرا عن تقديرة ،بعد أن أوضح له أن المتطلبات السياسية والسيادية والوطنية تستلزم هذاالموقف الآن ، و نشرت الصحف والمجلات المصرية الرئيسية نبأ التكريم الذى ناله دانينوس من الرئيس عبد الناصر.

بعد حصول دانينوس على المكافأة المالية قام بسداد جميع مديونياته ولم يتبق معه سوى القليل من الأموال، وقد منحة الرئيس عبد الناصر معاشا استثنائيا متواضعا كان يكفيه بالكاد لتغطية مصاريف معيشته وعلاجه، تدهورت حالته الصحية ولازم الفراش لعدة أشهر إلى أن توفى فى 23 سبتمبر 1976م وعمرة 89 عاما.

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط