الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

العقل النقدي يصطدم بالمنظومات السائدة


إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يقيم مقابر لموتاه، وفي الغالب بل الأكيد أن هؤلاء الموتى هم من يحكمون الواقع الذي يعيشه الإنسان، فحتى هؤلاء الأفذاذ من بني البشر الذين يعيشون واقعهم في أي عصر من العصور، إن أرادوا أن يقدموا فكرة جديدة أو رأيا جديدا، فإنه ولابد أن يشفعوه بمقولة أو رأي لعلم من الأعلام ممن رحلوا، وذلك لتأصيله مرة، ولتسويقه لأبناء عصره مرة أخرى، هذا الذي يؤكد أن هناك طبقات متراكمة تشكل واقعنا الذي يظهر منه الطبقة الأخيرة التي هي نتاج تفاعل كل الطبقات التي سبقتها.


من هنا فإن أية محاولة لخدش تلك الطبقة مهما كان فيها مما لا يتصوره العقل ولا يتسق مع أي منطق، فإن صاحب تلك المحاولة سيلقى ما لا يحمد عقباه، حيث إن واقع المجتمع قد استقر على حال تلك الطبقة الأخيرة، ذلك الذي يجعل عمل المجددين والمفكرين والمصلحين عموما محفوفا بالمخاطر الهائلة.


إن العقل الخانع يظل متماهيا مع كافة تفاصيل حالة المجتمع تلك، عكس العقل الناقد الذي هو نتيجة لنقده للمجتمع يصبح معرضا للكثير من المخاطر إن لم تكن الأهوال، التي يمكن أن تصل إلى إنهاء حياة صاحبه.


إن العقل الناقد يسعى إلى تغيير المنظومات السائدة في المجتمعات الخانعة تلك التي تمتلك منظومات بالية، فإذا به يواجه بعنف شديد، تتمثل أوضح تمثيل في كل محاولات الأنبياء والفلاسفة والعلماء الذين كانوا أكثر مَنْ لاقوا من الويلات في محاولاتهم تغيير تلك النظم المهترئة، والأخذ بيد مجتمعاتهم خطوات للأمام.


وعلى الرغم مما لاقاه هؤلاء من مجتمعاتهم فإن أفكارهم التي كانت صادمة لهذه المجتمعات هي التي انتصرت وبقيت حية ردحا طويلا من الزمان وتحولت مع الوقت للسائد في تلك المجتمعات والتي لا تقبل مساسا من عقول ناقدة جديدة تتعرض لكل أنواع الترهيب إذا ما أرادت مرة أخرى الثورة على تلك القيم، وهكذا تستمر الطبقات في التوالي، وتستمر محاولات النحت في تلك الطبقات للتغيير مُعَرِّضَةً أصحابها للمخاطر الجسام.


إن أول تلك العقول الناقدة كانت عقول الفلاسفة، حيث ثارت على التفسير الأسطوري للوجود، فجاءت اللحظة الفلسفية في بدايتها لتقدم جوابا منطقيا عن سؤال الوجود، في لحظة كانت فيها الإجابة الأسطورية عن هذا السؤال هي السائدة، فرفضها العقل الفلسفي الناقد، الذي طرح الاستفهام عن الوجود مرة أخرى، من أجل فهمه بطريقة صحيحة معتمدة على العقل لا الأسطورة والمنطق لا الخرافة.


هذا الذي يعني أن إعادة طرح الاستفهام عن الوجود من أجل فهمه بطريقة أخرى، معتمدة على العقل دخل بالفلسفة بشكل مباشر إلى لحظة الصدام مع هذا التفسير الأسطوري السائد، والذين يتبنونه، وهم كل فئات وطبقات المجتمع، وهذا الصدام جاء نتيجة حتمية للحس النقدي، الذي أعاد طرح السؤال، والذي فيه بداهةً عدم القناعة بالإجابة الأسطورية المطروحة في حينه.


إن ممارسة النقد على الأسئلة السائدة خاصة أساسية في التفكير الفلسفي؛ وهي بوضوح شديد عدم قبول السائد من الفكر، دون وضعه تحت مبضع النقد والتحليل، وممارسة النقد على كل شيء، ولا يستثنى من ذلك المألوف من الأفكار.


ولكن هذا النقد والتحليل ومن ثم القبول أو الرفض، كان بالنسبة لمن يمارسه كمن يمشي على سكين حادة، فإما أن يكتفي بالمعرفة ولا يكشف عنها، خوفا من أن يصدم مجتمعه، الذي لا يأمن ردة فعله، كما فعل كوبرنيكوس  (19 فبراير 1473 – 24 مايو 1543) حينما حرّك الأرض وأسكن الشمس، وكان يعلم أن ذلك ستكون آثاره عليه شخصيا كارثية، فأخفاه، ولم يظهر كتابه الذي ضمنه نظريته الفلكية إلا بعد مماته، وإما أن يعلن كما فعل جوردن برونو  (1548 في نولا ـ 17 فبراير 1600 في روما) الذي اعتنق نظرية كوبرنيكوس عن دوران الأرض على الرغم من أنها كانت محرمة من قبل رجال الدين آنذاك وذهب إلى أبعد منها آنذاك بوضعه فرضية أن النظام الشمسى هو واحد من مجموعة نظم تغطى الكون في صورة نجوم وألوهية ولانهائية الكون. كما افترضت نظريته أن كل من النظم النجمية الأخرى تشتمل على كواكب ومخلوقات عاقلة أخرى. فلقى مصيره بأن تم الحكم عليه بالموت حرقا.


إن كل من أعلن رفض السائد الفكري وتجرأ عليه وانتقده، دفع الثمن باهظا، كما حدث مع الأنبياء أنفسهم والفلاسفة كذلك وكل المفكرين الساعين لتغيير المفاهيم السائدة في عصر من العصور، لأن هؤلاء جميعا يأتون بنقلة جديدة على مستوى الطرح، وكل هؤلاء يواجهون بل يصطدمون مع هذا الوصف الدقيق لهذه الحالة في القرآن الكريم: حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا.


إن السلطة الحاكمة في المجتمع، أي مجتمع، هي سلطة التقليد، فهي سلطة راسخة متمكنة، وهي السلطة التي تحاكم العقل والحس النقدي والذي لابد أن يكون الجدل المنبثق منه هو جدل التغيير والتجديد، وهنا تكون اللحظة الفارقة، حيث تدفع تلك الحالة بين العقلين: المقلد والمجدد للصدام ما بين الجديد المنشود من قبل هؤلاء الأنبياء والفلاسفة والمفكرين وبين تلك المنظومة العتيقة التقليدية التي عليها مجتمعاتهم، هذا الصدام الذي يمكن أن يكون فيه حياة هؤلاء هي نتيجته الباهظة، والتي كان أولها، حسب ما وصلنا، هو إعدام الفيلسوف اليوناني القديم سقراط (470 ق.م - 399 ق.م) وذلك بتهمة إفساد الشباب والإلحاد. تلك التي كانت نتيجة للعقل الناقد، حيث استاءت شخصيات مهمة في أثينا من أسلوب سقراط في الأسئلة، ويرجع السبب لدحضه سمعة الحكماء والفضلاء. فاعتبر أغلب العامة بأن سقراط قد فاز بلقب ناقد أثينا بسبب طريقة جداله الخاصة. فكان الشباب الأثيني يقلدون ذلك الأسلوب في كثير من الأحيان مفككين بذلك النظام الاجتماعي والقيم المعمول بها. وهنا يظهر جليا أن  سقراط بسبب عقله الناقد أصبح أول شهيد في تاريخ الفلاسفة، وكاد قبيله  أنكساجور ، صاحب مقولة في كلّ شيء، جزء من كلّ شيء” بعدة عقود أن يقتل، لو تدخل أحد أصدقائه، أما السبب في ذلك، ، فهو جرأته على نقد الحس المعرفي السائد ولذلك قصة طريفة: حيث سقط نيزك من السماء، التي هي مقدسة في ذلك الوقت لدى اليونانيين، وتأمل أنكساجور ذلك، وقال هنا قولته الشهيرة: إذًا الشمس والنجوم ليست آلهة، وما الشمس إلا كتلة ملتهبة، وكذلك فإن النجوم ليست كائنات نورانية وإنما هي تراب وحجارة، فكاد، بسبب هذه المقولة المستندة على المشاهدة الحسية التي لا تقبل تكذيبا، أن يفقد حياته نتيجة لهذا التجرؤ على الآلهة المعتقدة عند اليونانيين القدماء، ذلك الذي سنراه على مر التاريخ، ولعل هروب أرسطو من أثينا خوفا من المحاكمة في معركة الإبداع ضد التقليد لهو من الشهرة بمكان، ولعل إجابته أيضا كانت كاشفة حينما سُئل عن سبب هروبه فذكر أن ذلك حتى لا ترتكب أثينا جريمة جديدة في حق الفلسفة إشارة إلى إعدام أرسطو.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط