الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

موت الموت.. ما بعد الإنسانية

اتصل بي أخي الأكبر "يحيى" للتهنئة بعيد الفطر المبارك، هذا الاتصال الذي لم يقتصر على مجرد التهنئة ولكنه انتقل من الحالة الشخصية إلى الحالة العامة إلى الحديث في الأحداث الجارية على أرض فلسطين المحتلة إلى نظرة العالم الغربي لتلك الاعتداءات الإسرائيلية على شعبنا الفلسطيني، منتقلا إلى الحديث عن الفوارق الثقافية بيننا وبين غيرنا من الشعوب، وطريقة التفكير والنظرة للعالم، تلك التي لا تحدها حدود عند الإنسان الغربي، هذا الذي دفع أخي لسؤالي: ألا يمكن أن يتدخل الله سبحانه وتعالى ليغير هذا العالم تغييرا جذريا ويخلق خلقا جديدا، بعدما تدخل الإنسان الحديث في الطبيعة، ومحاولة تدخله في الطبيعة البشرية ذاتها، بهذا الشكل المضر؟! إنه لم يكن سؤال استفهامي بقدر ما يمكن أن يخرج عن كونه استفهام لغرض بلاغي آخر من مثل التمني أو الرجاء أو الوعيد أو الاستنكار، لما يقوم به الإنسان من محاولة تغيير ما نؤمن نحن أنه خلقة ربانية، وراءها حكمة إلهية.

أما تعليقي على ما ذهب إليه أخي الأكبر أننا نذهب إلى أن الإنسان لن يتوقف في الطريق التي بدأها منذ هجره لطريقة التفكير الأسطورية التي بدأت مع الفيلسوف الفرنسي الشهير رينيه ديكارت الذي مهد تمهيدا كبيرا لثورة عقلية كان نتيجتها إخضاع كل شيء للعقل والعلم، وأضفت أن الذي يمنع الإنسان الآن من المضي قدما في هذه الطريق أو تلك هي  فقط القوانين التي يتم سنها بعدما تخضع لحوار مجتمعي يتم فيه حساب الربح والخسارة بمصطلح علم الاقتصاد اليوم، مستطردا أن هناك تحايل أيضا على تلك القوانين التي يتم سنها فيما يعكس ذلك التمرد الذي هو أحد خصائص العقل البشري، وضربت له مثالا فيما يسمى "الثورة البيوتكنولوجية" وأردفت أنني أشرت في آخر مقال لي في سلسلة مقالاتي الأسبوعية لصحيفة صدى البلد أنني سوف أتناولها في مقال قادم والثورة البيوتكنولوجية هي تلك التقنية الحيوية أو التكنولوجيا الحيوية (بالإنجليزية: Biotechnologies)‏ وهي تطبيق المعلومات المتعلقة بالمنظومات الحية بهدف استعمال هذه المنظومات أو مكوناتها في الأغراض الصناعية. أي أنها تقنية مستندة على علم الأحياء، خصوصًا عندما تستعملَ في الزراعة، علم الغذاء، والطب. أقول أن هناك تحايل للاستمرار والمضي قدما في هذه الثورة إلى مدى بعيد، وذلك من خلال إجراء التجارب في هذا المجال في تلك الدول التي لم تجرمه بالقانون كما هو الشأن في الدول الأوروبية التي وضعت حدودا لهذا المجال التقني يتناسب فيما تراه من حفاظ على حقوق الإنسان، لأن هذه التقنية تهدف إلى التدخل المباشر لصنع إنسان جديد أو بالأحرى للوصول إلى مرحلة ما بعد الإنسانية تلك التي يسعى أنصارها  إلى الوصول إلى وضع «ما بعد الإنسانية»، وذلك من خلال التخلّص من الإعاقة، والألم، والمرض، والشيخوخة، والموت، بفضل التظافر بين:
١- تكنولوجيات النانو "تقنية الجزيئات متناهية الصغر أو تقنية الصغائر أو تقنية النانو هي العلم الذي يهتم بدراسة معالجة المادة على المقياس الذري والجزيئي. تهتم تقنية النانو بابتكار تقنيات ووسائل جديدة تقاس أبعادها بالنانومتر وهو جزء من الألف من الميكرومتر أي جزء من المليون من الميليمتر"
٢- التكنولوجيا الحيوية والتي ‏ هي تطبيق المعلومات المتعلقة بالمنظومات الحية بهدف استعمال هذه المنظومات أو مكوناتها في الأغراض الصناعية. أي أنها تقنية مستندة على علم الأحياء، خصوصًا عندما تستعمل في الزراعة، وعلم الغذاء، والطب".
٣- الذكاء الاصطناعي (بالإنجليزية: Artificial Intelligence)‏، وهو سلوك وخصائص معينة تتسم بها البرامج الحاسوبية، تجعلها تحاكي القدرات الذهنية البشرية وأنماط عملها. 
٤- العلوم المعرفية وهي الدراسة العلمية متعددة التخصصات للعقل وعملياته. إنها تفحص طبيعة ومهام ووظائف الإدراك (بمعنى واسع). يدرس العلماء المعرفيون الذكاء والسلوك ، مع التركيز على كيفية تمثيل النظم العصبية للمعلومات ومعالجتها وتحويلها.
إن المؤيدين لهذه الثورة التي يرون أنها تصل بالبشرية إلى طور آخر يطلقون عليه كما رأينا سابقا "ما بعد الإنسانية" لا يقفون عند حد، ولا يوافقون على تلك القوانين التي تسنها الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية التي تحد من التجارب في هذا المضمار، ومن هنا فإنهم يلجؤون لإقامة التجارب الخاصة بهذا النوع في بلدان مثل الصين، وهم
يدعون إلى ممارسة الاستنساخ البشري، والواقع الافتراضي، والتهجين بين الإنسان والآلة، وتحميل العقل. هذا الذي يرون فيه خطوة مهمة في الوصول إلى نوع جديد من الإنسان في طريقهم للوصول إلى الإنسان الخارق والذي نقرأ تعريفا له في صفحة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم "اليونسكو": الإنسان الخارق  هو المثال الأعلى في نظرية ما بعد الإنسانية. وهو فرد تمّ إخضاعه لتغييرات بهدف تحسين قدراته، بفضل تدخّلات على جسمه تعتمد على مبادئ علمية وتكنولوجية. نصفه إنسان، ونصفه الآخر آلة - تهجين الإنسان والآلة وهي عملية تسمح بالربط بين جسم الإنسان ونظام تكنولوجي. ويمكن أن يكون الربط هيكليا، مثل الذراع الاصطناعي المُسيّر بإيعاز ذهني، أو افتراضيّا مثل غوغل غلاسز، وهي نظارات تُسيّر بالصوت وتسمح لمعلومات أو صور مختلفة بالظهور في ركن من الزجاجات إضافة إلى نظرنا العادي. مما يجعل المخلوق الجديد قادرا على الركض بسرعة أكبر، وعلى الإبصار ليلا، وتحمّل الألم، واكتساب قدرات ذهنية واسعة، ومقاومة المرض والموت.

إن الإنسان «المُرمّم» قد أصبح واقعا، والأعضاء الاصطناعية المتصلة في تحسّن مُستمر. والإنسان الخارق يُصبح شيئا فشيئا حقيقة، مع تطوير هياكل عظمية خارجية مُصطنعة  تُستعمل حتى اللحظة لغايات عسكرية.

أما المُعارضون لهذه الحركة، فإنهم ينتقدون فيها التخمين المفرط، والتأسيس لروحانيات جديدة تُؤلّه التقنية، وتخيّل «إنسان استثنائي» تستجيب مواصفاته لمتطلبات تحسين النسل.
وبالطبع هناك فريق يعتبر كل ذلك نوع من الخيال الأسطوري الذي لا يمكن أن يتحقق، وكأننا، أعني الإنسان عموما، لا يستطيع أن يغادر الأسطورة، وربما بالفعل هو كذلك، وإن كان مفهوم الأسطورة قد تغير، فبعد أن كانت في تعريفها الأصيل هي حكاية مرتبطة بالإله في الديانات الوثنية التعددية، ولأن الديانات التوحيدية جاءت لتحد بشكل هائل في حكايات الإله الذي أصبح متعال، فإن، كما يذهب العديد من دارسي علم الأديان، الأسطورة قد تسربت لتلتصق ببعض الأمور العلمية، أو تظهر في بعض الأعمال الفنية، كما هو الحال في الأفلام السينمائية التي تصنف أنها من الخيال العلمي، والتي منها أفلام "سوبر مان" على سبيل المثال.
وإن كنا نذهب أن كل المنجزات العلمية لم تكن في الأصل أكثر من خيال مجنح لأحد العقول البشرية الفذة، هذا الخيال الذي يواجه بالرفض من معاصري صاحبه، بل بالسخرية والاستهزاء في الغالب الأعم، ومن هنا فإننا نميل أن تتخذ هذه الثورة البيوتكنولوجية طريقها سربا متخفية حينا، كاشفة عن خطواتها حينا، مظهرة بعض الجوانب التي ربما تحسب أنها يمكن أن تروق للبعض حينا آخر إلى أن تؤهل المجتمع البشري، غير المؤهل الآن، لقبولها.
ولعل من مظاهر التمهيد التي نزعم أنها مرحلة وسيطة ما بين الهدف الأبعد والخطوات الأقصى لهذه الثورة، والتي لابد من التسجيل هنا أننا - أعني أبناء العالم العربي وربما الإسلامي - بعيدون عنها كل البعد، ولذلك أسباب عديدة ليس هنا مجال ذكرها، وإن كنت أرى أنه لابد من عدم الابتعاد الكلي وغلق الباب بكل المغاليق عن هذا المجال الخطير، وإلا لربما صحونا مرة فإذا الفروق بيننا وبين ما بعد الإنسانية، كما بين جنس الإنسان اليوم وأبناء عمومته من القرود، أقول لعل المرحلة الوسيطة بين الإنسان بشكله الحالي وما تصبو إليه تلك الثورة البيوتكنولوجية هو سيطرة الذكاء الاصطناعي سواء كان الضعيف أو المحدود أو الذكاء الاصطناعي القوي أو العام: الذكاء الاصطناعي الضعيف أو المحدود يتطابق مع الذكاء الاصطناعي الموجود حاليا: هو مكون من آلات قادرة على تنفيذ بعض المهامّ المضبوطة بشكل مُستقلّ لكن دون وعي، في إطار مُحدّد من طرف الإنسان وبقَرار منه لا غير. أما الذكاء الاصطناعي القوي أو العام فقد يكون آلة لها وعي وإحساس، قادرة على تقديم حلّ لأيّ نوع من المشاكل: وهو، حتى اليوم، ضرب من الخيال.

ولعله من المناسب أن نذكر هنا "راي كورتسفيل" أحد أنبياء الترانس techno-prophete: والذي يصيغ مقطوعة بأسلوب هو أقرب للشعر ليحفز الناس لقبول تلك الثورة البيوتكنولوجية، فيقول:
«نود أن نصبح أصل المستقبل، نود أن نغير الحياة، نود خلق أنواع جديدة من الكائنات، أن نساهم في بناء البشرية، أن نختار مكوناتنا الحيوية، أن ننحت أجسامنا ونفوسنا، أن نروض جيناتنا، أن نلتهم ملذات تحويل خلايانا الجينية، أن نهب خلايانا الجذعية، وأن نبصر الألوان ما تحت الحمراء، وأن نسمع الموجات الصوتية الرفيعة وأن نستشم جيناتنا، وأن نستبدل خلايانا العصبية، وأن نمارس المتعة الجنسية في الفضاء، وأن نجاذب أناسنا الآليين أطراف الحديث، وأن نمارس الاستنساخ إلى ما لا نهاية، وأن نضيف لنا حواس جديدة، وأن نعيش قرنين وأكثر، وأن نستوطن القمر، وأن نخاطب المجرات…».

والوصول إلى ذلك يتم من خلال برنامج عناصره الأساسية:
تطويل العمر البشري. وإقصاء الأمراض والآلام وإبعاد الشيخوخة وإبعاد الموت وتضبيب العلاقة بين الحياة والموت أو قتل الموت بتعبير آخر وكذا الشروع في الحياة. وتقوية الذاكرة باستنبات شرائح إلكترونية، وتقوية حواس السمع البصر والإحساس وتقوية العقل والذكاء عن طريق الشحن أو تطوير قدرات التخزين أو تنشيط الدماغ بالتيار الكهربائي، وتسريع وتقوية حركية الجسم. وكذلك تطوير تجارب خلق کائنات حية وحيدة أو متعددة الخلايا.
وذلك، في وجهة نظر أصحاب المشروع وأنصاره، لتقوية إحساس الإنسان بالسعادة. وهو محاولة لتحقيق إكسير الحياة الذي حلمت به الإنسانية من أجل إطالة العمر والإشفاء من الأمراض، أو لتحقيق الحلم البشري بالخلود، مع فارق أن الإكسير هو مجرد أحلام وتخيلات في حين أن مشروع الترانس هو مشروع علمي تكنولوجي فعلي يتم بدعم وبتمويلات فعلية من طرف غوغل وكثير من الشركات تحت عنوان الإنسان المعدل (Améliore) أو المقوى أو المستزاد (Augmente) إما بالتحسين أو التهجين.

وكما هي طبيعة الأشياء فإن هناك من يرفض هذا كل الرفض ويعتبره تدخلا سافرا في الخلق الطبيعي، بل ويتعبره تدخلا في شأن الأطفال الذين سوف يأتون بعد التدخل البيوتكنولوجي دون أن يكون لهم رأي فيما سيصيرون إليه، وهو ما يعتبر وصاية غير مقبولة على هذه الأجيال التي سوف تخضع لذلك. وأكثر من ذلك فهناك من يعتبر هذا المشروع هو إعلان حرب على النوع الإنساني، ويوتوبيا تقنية حالمة، إنه هذيان، بل ذهب البعض إلى أن هذا المشروع هو محاولة يائسة لجعل الإنسان إلها.

 

 

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط