الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

خطيب المسجد الحرام: إساءة الظن بالله أخطر ما يفتك بقلب العبد

خطيب المسجد الحرام
خطيب المسجد الحرام

قال الشيخ الدكتور فيصل بن جميل غزاوي، إمام وخطيب المسجد الحرام، إن من أخطر ما يفتك بقلب العبد ويورده المهالك أن يعتقد الإنسان في ذات الله سبحانه وتعالى أو صفاتِه أو أفعاله خلافَ الحق.

أخطر ما يفتك بقلب العبد

واستشهد «غزاوي» خلال خطبة الجمعة اليوم من المسجد الحرام بمكة المكرمة، بما قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام وهو يخاطب قومه الذين اتخذوا الأصنام آلهة: « فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ» «أي إن اعتقادكم في جانب رب العالمين باطل وجهل منكَر »، وقد يكون المرء ممن يسيء الظن بربه وهو لا يشعر.

وأشار إلى ما قال ابن القيم رحمه الله: " فأكثر الخلق بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السَّوء؛ فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق، ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله ، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي ومنعني ما أستحق، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به.

وأضاف: ولو فتشت مَن فتشته، لرأيت عنده تعتباً على القدر وملامةً له، واقتراحاً عليه خلافَ ما جرى به ، وأنه ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك ، منوهًا بأن من صور هذه المسألة التسخط والاعتراض على الأقدار فهي من أخطر أمراض القلوب.

ماذا فعلتُ يا ربي

وتابع: ومن مظاهر ذلك قول بعضهم إذا أصيب بمصيبة: ماذا فعلتُ يا ربي؟ أو أنا لا أستحق ذلك، أو عندما يرى على أحد نعمة فيحسُده عليها قائلاً: لماذا فلان عنده كذا وكذا وأنا ما عندي شيء؟! وكذلك ما يقوله بعضهم إذا أصيب شخص بمصيبة: فلان مسكين لا يستحق ما جرى له! أولا يستاهل هذه العقوبة، فمثل تلك الأقوال المنكرة مما يكثر على الألسنة، وذلك من الاعتراض على قضاء الله وقدره، ومن الجهل بحكمته سبحانه فلا يجوز إطلاقها، ولا أن نتكلم بكلمة تسخط ربنا وتحبط عملنا، بل علينا أن نَرضى ونُسلم لأمر الله وحُكمه وتدبيره وأن نحسن الظن به ونفوض الأمر إليه.

وأوضح أن من الأمور التي تدل على عدم تعظيم الله وإجلاله الاعتقاد بأن النفع والضر بيد أحد من الخلق، ومن صور ذلك نسبة الشفاء لغير الله؛ مع أن طلب الشفاء لا يكون إلا من الله وحده، فهو الذي يشفي من الأمراض جميعها أمراضِ القلوب وأمراض الأبدان؛ فالمؤمن وإن أخذ بأسباب الشفاء فهو يعتقد ألا شافي إلا الله، ولا يكشف الضر ويذهب البأس إلا هو، قال تعالى: «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».

قصة الغلام المؤمن

ونبه إلى أنه مما يحسن التنبيه عليه أن بعض المرضى تتعلق قلوبهم بالأسباب، كالأطباء والمعالجين، والواجب أن يكون تعلق القلب بالذي أنزل الداء، ولا يرفعه إلا هو، قال تعالى على لسان عيسى عليه السلام «وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ» أي ولا أفعل كل ذلك بقدرتي وعلمي وإنما أفعله بإذن الله وبإرادته وأمره.

وأفاد بأنه في قصة الغلام المؤمن قال " إني لا أَشفي أحداً إنما يشفي الله" فكان يعلق القلوب بالله خالقِ الأسبابِ وأثرِها ويؤكد على أن الذي يشفي حقيقة هو الله سبحانه كما قال عز وجل على لسان إبراهيم عليه السلام « وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ » ولذلك ينبغي أن ندرك هذه الحقيقة، فبعض الناس إذا سمعوا عن أحد من الرقاة بأن فلاناً قد رُقي عنده فبَرِئ لربما اعتقدوا فيه، وتهافتوا عليه، يظنون أن الشفاء عنده، وهو مخلوق عاجز ضعيف لا يملك شيئاً، فينبغي لهذا الراقي أن يُعْلِمَهم أن الله تعالى هو الشافي، وأن الرقية سبب وليست بذاتها تشفي .

وبين أنه  من جهالات بعض الضالين بعلم الله تعالى المحيط بكل شيء ما حكاه الله عن قوم لم يعظموه حق عظمته فقال سبحانه: « أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ۚ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ» أي إنهم كانوا يثنون صدورهم إذا قالوا شيئا أو عملوه، يظنون أنهم يستخفون من الله بذلك؛ فأعلمهم أنهم حين يتغطَّون بثيابهم عند منامهم في ظلمة الليل يعلم ما بداخلها كما يعلم ما بخارجها، وهو عليم بما تكن صدورهم من النيات والضمائر والسرائر، وعلمه تعالى محيط بكل حال من الأحوال.

ما أقبحَ فعلَ العبد

وواصل : أيها المسلمون وما أقبحَ فعلَ العبد وما أشدَّ غفلته عندما لا يستشعر رقابة الله فيعصيه حال غيبته عن أعين الخلق! فذنوب الخلوات عنوان كبير لضعف تعظيم الله في قلب العبد، وبرهانٌ ساطع على عدم إجلال الله سبحانه كما يليق بجلال وجهه قال عز وجل منكراً على أولئك الذين يستترون بقبائحهم من الناس «يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً».

وشدد قائلاً: فلنحذر عباد الله أن نعصي ربنا حال الخلوة فإنه الرقيب مطلع علينا ويرانا حيث كنا ولا يغفل عنا، ولا يخفى عليه ما نسمعه في خلواتنا من الأمور المحرمة ولا ما ننظر إليه من الصور الفاتنة ولا ما نراه من المشاهد الفاضحة والمقاطع الآثمة في الوسائل المختلفة.

مسائل ضل فيها قوم التسوية

ولفت إلى أن من المسائل التي ضل فيها قوم التسوية بين الأخيار والفجار، والأبرار والأشرار، وهم بذلك ينسبون إلى الله عز وجل ما لا يليق بجلاله ويتنافى مع عظمته وعدله وكماله قال ابن القيم رحمه الله: "وَقد أنكر تَعَالَى على من نسب إِلَى حكمته التَّسْوِيَةَ بَين الْمُخْتَلِفين كالتسوية بَين الأبرار والفجار فَقَالَ تَعَالَى «أم نجْعَل الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات كالمفسدين فِي الأَرْض أم نجْعَل الْمُتَّقِينَ كالفجار» .

ودلل بما َقَالَ تَعَالَى «أم حسب الَّذين اجترحوا السَّيِّئَات أَن نجعلهم كَالَّذِين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سَوَاء محياهم ومماتهم سَاءَ مَا يحكمون».. وإنما أنكره من جهة قبحه في نفسه وأنه حُكْمٌ سيء يتعالى ويتنزه عنه لمنافاته لحكمته وغناه وكماله وَوُقُوع أفعاله كلها على السداد والصواب وَالحكمة فلا يليق به أن يجعل البرَّ كالفاجر ولا المحسنَ كالمسيء ولا المؤمنَ كالمفسد في الأرض فدلَّ على أَن هذا قبيح في نفسه تعالى الله عن فعله" ا.هـ رحمه الله. .

واستطرد: فإذا كان الله العليم الخبير قد فرق بين هؤلاء وهؤلاء فكيف يسوي الجاهلون بينهم، ساء الحكم حكمهم قال سبحانه: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» وقال عز وجل «أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون» فإذا كان الأمر كذلك فما ينبني على هذا التفريق من الأحكام هو من المحكمات الثابتة والأسس الراسخة قال سبحانه «إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ وما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ» وفي الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث منادياً ينادي في الناس : " إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة " ، وفي لفظ : " مؤمنة " .

سر إحسان السلف

ونوه بأنه عند التأمل في سر إحسان السلف وكثرة عبادتهم لربهم، وجهادهم أنفسهم في ذات الله، وتضحيتهم من أجله، وبذلهم للغالي والنفيس في سبيله، نجد أن سبب ذلك هو قوة معرفتهم بالله، وتعظيمهم له حق التعظيم فلو عرفنا الله حق معرفته لتغيرت أحوالنا، ولحسنت فعالنا، لكن لما عظم الجهل بالله من قبل كثير منا، قل خوفنا منه، وضعف رجاؤنا فيه، وجعلناه أهون الناظرين إلينا؛ فلا غرابة حينئذ مِن تعدِّي حدودِ الله والاستهانة بمعاصيه وعقوباته، والجرأة على ارتكاب الكبائر وانتهاك حرماته.

وأكد أنه عندما لا يعرف العبد ربه حقاً ولا يستشعر عظمة الخالق يَبْعُد عن منهجه، ويتقاعس عن عبادته، ويتكاسل عن طاعته، ويترك أوامره، ويرتكب معاصيَه، كل هذا لأن القلوب ما عرفت الله حق معرفته، وإلا فهل يعقل أن يجترح المرء السيئات أو يقع في الفواحش والموبقات وهو يعرف ربه معرفة يقينية، ويعلمُ أن الرب جل جلاله يراه ويسمعه، ويطلع على جميع أحواله، ويعلم كل أسراره، ولا يغيب عن أمره منه شيء.

المستخف بالمعاصي

وتساءل قائلاً: كيف يمكن أن يعصيَه إذا كان يعرفه بهذه المعرفة؟! بل هذا المستخف بالمعاصي جاهل بمقام الله وقدره، وجاهل بنظر الله ومراقبته، قد اغتر بحلم الله وإملائه ونسي أن إبليس كان في الجنة مع الملائكة المقربين فلِمعصية واحدة وقعت منه أصبح شيطاناً رجيماً استحقَّ لعنةَ الأبد، وعذابَ الخُلد، وآدم عليه السلام الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأَسجدَ له ملائكتَه، بذنب واحد أُخرج من الجنة ونعيمها ولولا أن تاب الله عليه لكان من الهالكين.

وأوصى بأنه من الواجب أن نُحيي عظمة الله في قلوبنا بأن نتعرف عليه حق معرفته وسبيل ذلك أن نتدبر القرآن الكريم، ونكثر من تلاوته، ونتمعن في آياته، ونقف عند معانيه ونتفاعل معه تفاعلاً حقيقياً بكل مشاعرنا فتؤثرَ آياتُه في نفوسنا، ونتعرفَ من خلال ذلك على ربنا، وكذلك نتعرف عليه بالنظر إلى مخلوقاته في هذا الكون «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ» كما نتعرف عليه سبحانه بالنظر إلى أنفسنا «وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُون» .