الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

رحلتي معه

د. هادي التونسي -
د. هادي التونسي - سفير سابق

بالغ الجدية، بالغ العمق، يحدثك وكأنه يرى من خلالك ما لم تدركه بعد، يعتقد بصدق و نزاهة فيما يقوله، و يقوله بحسم مسئول أو بشدة والد محب أو باستنارة فيلسوف أو بشعور دافق صوفي، قد تفاجئك بعض مواقفه حين لا تدرك دوافعه، لكنه يعني ما يقول و يراه صائبا، فيتصرف بقلب شجاع مجدد.
رحلتي معه بدأت و كنت طالبا بالسنة الرابعة بكلية الطب التي كان بها استاذا للطب النفسي ١٩٧٤، جذبتني حكمة محتوية بادية في محاضرته؛ و كنت قارئا لعلم النفس منذ بداية المراهقة، فتحمست مع مجموعة اصدقاء لرغبته في عمل مجموعة طوعية تجريبية للعلاج النفسي الجمعي الذي بدأ تطبيقه في مصر. ومازلتُ أتذكر كلماته الأولي حينما دخلنا مكتبه فرحين: جئتم هنا بناء علي رغبتكم و مسئوليتكم، فمن يتزوج او ينفصل أو يغير معتقداته أو عمله أو مهنته أو بلده فهو المسئول، قالها بكل جدية و ثبات و هو يقرأ كتابا، و رغم شعوري بالصدمة غامرت شغفا بالتعلم النفسي.
لعام و نصف من حضور المجموعة الكاشفة كانت خبرتي عن نفسي مؤلمة وشاقة، إذ اكتشفت بعضا مما كنت لا اعرفه او انكره، و كان علي اما تغييره او تقبله و تحمل مسئوليته، لكن في النهاية تغيرت الي حد بعيد و شعرت بالمزيد من الثقة و الامان و القدرة علي التأثير لحصيلة الايجابيات ، حتي انه اختارني للعمل معه وبعرض سخي، و بدأت التدرب بمستشفاه مع مجموعة مساعديه، و رغم انه كان يضرب مثلا بحماسي للتعلم، الا انني ادركت انني لا اريد ان امنح كل وقتي للعمل، فحدث ما حذر منه في بداية التعارف؛ كنت أول طبيب يلتحق بالسلك الدبلوماسي من بداية درجاته، و هو ما وصفه مداعبا بانه هروب جيد، و اصبحت أقيم بين مصر و الخارج، و افادني ما تعلمته في حياتي و علاقاتي، بل كان العمل الدبلوماسي استكمالا لمسيرة التعلم بتحليل ذاتي الي التفاعل و التعلم من خلال تجارب و ثقافات الشعوب.
تمر العقود بعملي دبلوماسيا و مازال علم النفس شغفي و هوايتي، فاقبل علي تعلم الجديد فيه و في علوم الطاقة، حتي اكتشفت العلاج الفوري لتطوير الشخصية،و حصلت علي ملكيته الفكرية، و نشرته علميا في مجلات و مؤتمرات و ندوات في مصر و الخارج، فرشحني زميل له بالعمل معه. قابلته و قد تعدي الثمانين، ذكرته بي، و تعجب لاول وهلة لاكتشافي، حتي تشاور مع احد مساعديه، و علم انه يعتمد علي تقنية طبع الشخصية علي العقل اللاواعي، فاشاد بي بمحبة و حماس،و بالعلاج الفوري و عرض علي مجددا العمل معه لولا ظروف لا داعي لذكرها، بل ابلغني في لقاء لاحق انه عندما استشارته احدي الجهات الرسمية رد بانه يحق لي ممارسة هذا العلاج غير الدوائي كطبيب.
لم يكن دكتور يحيي الرخاوي بالنسبة لي مجرد معلم و صاحب عمل لم يرده القدر، بل شخصية ملهمة، تابعت حواراته الاعلامية و كتبه التي أهداني بعضها قدر الاستطاعة، كان رائدا مجددا في مهمة تعلم و عطاء مستمر،تتوخي الصدق و الشجاعة،بل و حتي في مشواره الادبي، اذ كنت حاضرا لملابسات احدي روايته الاولي التي اسماها "مدرسة العراة" عن مجموعة علاج جمعي تخيل ابطالها يكشفون أغوار أنفسهم،  فنال جائزة عنها، و حتي مقالاته عن حوارات مع الأديب العالمي نجيب محفوظ، فحياته كمثلي مهمة تعليمية مستمرة شغوفة لإنضاج النفس، لذا كان طبيعيا ان اتابع تجربته و انتاجه و عطاءه.
قد تتفق او تختلف معه، لكنه كان صادقا مع نفسه و الآخر، و اعطي قدر اجتهاده حتي لو لم يفهمه البعض، اعطي نفسه حق الاختلاف و بشجاعة مع ما لا يعتقده العامة، و أفاض عليهم من حكمته و رؤيته، فالرائد ينير الشموع و لا ينتظر الاعجاب، و المحبة لا تختزن، و الحق أبدي ان يقال، و الخير يجب ان يعم. هكذا عايشت تلك الشخصية الفريدة الرائدة المتبحرة المجددة المعطاءة، رحم الله دكتور يحيي الرخاوي و أحسن جزاءه، و جعله قدوة لمن يعطي بقلب ناضج و حس مسئول و عقل حكيم و فكر مجدد.