الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

من صام فليصم سمعه وبصره.. من قائلها وأثر ارتكاب المعاصي والذنوب على الفريضة

من صام فليصم سمعه
من صام فليصم سمعه وبصره

«من صام فليصم سمعه»، مقولة يتساءل الكثيرون عن قائلها ومدى صحتها، وهل هناك علاقة بين ارتكاب المعاصي وقبول الصوم.

من صام فليصم سمعه

وقالت الإفتاء في بيانها مقولة «من صام فليصم سمعه»، جاء في الأثر المسؤول عنه ورد في كتب السُّنَّة النبوية المشرفة، ونصه أن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَآثِمِ، وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَيَوْمَ صِيَامِكَ سَوَاءً" أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"، والحاكم في "معرفة علوم الحديث"، والبيهقي في "شعب الإيمان"، وابن المبارك في "الزهد والرقائق".

وتابعت في بيانها مدى صحة مقولة سيدنا جابر رضي الله عنه: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك": له شواهد من عدة طرق تؤيده وتقويه وإن كانت بعبارات مختلفة.

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ» متفقٌ عليه.

وعَنْه أيضًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه".

قال القاضي ناصر الدين البيضاوي في "تحفة الأبرار" (1/ 497، ط. أوقاف الكويت): [المقصود من إيجاب الصوم وشرعه: ليس نفس الجوع وعطشه، بل ما يتبعه من كسر الشهوة وإطفاء ثائرة الغضب، وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل له شيء من ذلك، ولم تتأثر به نفسه، ولم يكن له من صيامه إلا الجوع والعطش لا يبالي الله تعالى بصومه، ولا ينظر إليه نَظَرَ قبولٍ، إذ لم يقصد به مجرد جوعه وعطشه، فيحتفل به ويقبل منه. وقوله: «فَلَيْسَ لِلهِ حَاجَةٌ» مجاز عن عدم الالتفات والقبول والميل إليه، نفى السبب وأراد نفي المسبب] اهـ.

بيان معنى مقولة سيدنا جابر: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك"

مما يؤيد مقولة سيدنا جابر رضي الله عنه ما ذكره الشراح وتواردت عليه النصوص في معناها، وشرح شواهدها: من أن التقرب إلى الله تعالى في الصيام لا يكون بمجرد ترك الطعام والشراب فحسب، وإنما ينبغي حفظ الصيام عن كلِّ ما يُنقصه في الأجر والثواب، أي: صيام الجوارح، فينبغي أن يكف الصائم سمعه وبصره عن المحرمات، وكذا لسانه عن الكذب والغيبة والظلم والعدوان، وغير ذلك من المآثم، بحيث إذا صام المرء عن الطعام والشراب والشهوات صامت معه كلُّ جوارحه عن فعل المحرمات، لا سيما وقد أمرنا الله تبارك وتعالى بحفظ الجوارح، وأخبرنا أنهم شهود علينا في اليوم المشهود، والحال أن كَفَّ البصر والسمع عن المحرمات، واللسان عن الغِيبة والنميمة والكلام الفاحش -واجبٌ في غير الصوم، فلأن يتأكد وجوبُه في الصوم أولى.

قال الله تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36]، وقال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [فصلت: 20].

قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "لطائف المعارف" (ص: 155-156، ط. دار ابن حزم): [واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله تعالى بترك هذه الشهوات المباحة في غير حالة الصيام إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرم الله في كلِّ حالٍ من الكذب والظلم والعدوان على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم..

إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّمْعِ مِنِّي تَصَاوُنٌ ... وَفِي بَصَرِي غَضٌّ وَفِي مَنطِقِي صَمْتُ

فَحَظِّي إِذًا مِن صَوْمِيَ الجُوعُ وَالظَّمَا ... فَإِن قُلْتُ إِنِّي صُمْتُ يَوْمِي فَمَا صُمْتُ

سر هذا: أن التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات لا يكمل إلَّا بعد التقرب إليه بترك المحرمات، فمن ارتكب المحرمات ثم تقرب إلى الله تعالى بترك المباحات كان بمثابة من يترك الفرائض ويتقرب بالنوافل، وإن كان صومه مجزئًا عند الجمهور بحيث لا يؤمر بإعادته؛ لأن العمل إنما يبطل بارتكاب ما نهي عنه فيه لخصوصه دون ارتكاب ما نهي عنه لغير معنًى يختص به، هذا هو قول جمهور العلماء] اهـ.

أثر ارتكاب المعاصي والذنوب على الصيام

قد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن ذلك مما ينقص أجر الصيام وثوابه، وأن الوقوع في مثل هذه الأمور لا يبطل الصوم بالكلية، لكنه ينقصه في الأجر.

قال الإمام الحطَّاب المالكي في "مواهب الجليل" (2/ 396، ط. دار الفكر): [ص: (وكف لسان) ش: يعني أنه يستحب للصائم أن يكف لسانه عن الإكثار من الكلام المباح، والكلام بغير ذكر الله سبحانه، وأما كف اللسان عن الغيبة والنميمة والكلام الفاحش فواجب في غير الصوم، ويتأكد وجوبه في الصوم، ولكنه لا يبطل به الصوم] اهـ.

وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (6/ 356، ط. دار الفكر): [ينبغي للصائم أن ينزه صومه عن الغيبة والشتم، معناه: يتأكد التنزه عن ذلك في حقِّ الصائم أكثر من غيره للحديث، وإلَّا فغير الصائم ينبغي له ذلك أيضًا، ويؤمر به في كلِّ حالٍ، والتنزه: التباعد، فلو اغتاب في صومه عصى ولم يبطل صومه عندنا، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد والعلماء كافة إلا الأوزاعي فقال: يبطل الصوم بالغيبة ويجب قضاؤه] اهـ.

وقال الإمام زكريا الأنصاري الشافعي في "أسنى المطالب" (1/ 421، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(قوله: وينبغي له كف اللسان عن الفحش) ما أحسن قول المتولي: يجب على الصائم أن يصوم بعينيه، فلا ينظر إلى ما لا يحل، وبسمعه فلا يسمع ما لا يحل، وبلسانه فلا ينطق بفحش ولا يشتم ولا يكذب ولا يغتب اهـ. وقال في "الأنوار": وأن يصون لسانه عن الكذب والغيبة والنميمة والشتيمة ونحوها وسائر الجوارح عن الجرائم أكثر وأشد مما في غير رمضان؛ لأن الثواب يبطل بها] اهـ.

وقال الشيخ البُهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 488، ط. عالم الكتب): [(ويجب) مطلقًا (اجتناب كذبٍ وغيبةٍ ونميمةٍ وشتمٍ وفُحْشٍ ونحوه).. (و) وجوب اجتناب ذلك (في رمضان، و) في (مكان فاضل) كالحرمين (آكد)..

ولما يأتي: أن الحسنات والسيئات تتضاعف بالزمان والمكان الفاضل. قال أحمد: ينبغي للصائم أن يتعاهد صومه من لسانه ولا يماري، ويصون صومه، كانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد، وقالوا: نحفظ صومنا ولا نغتاب أحدًا ولا نعمل عملا نجرح به صومنا] اهـ.

وشددت بناء على ذلك: فإن مقولة سيدنا جابر رضي الله عنه: "إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ" ثابتة وصحيحة، ولها شواهد من عدة طرق، ومعناها: أنه ينبغي على المسلم أن يصوم بجوارحه، فيكف سمعه وبصره ولسانه عن المحرمات والمآثم؛ لأنها تُنْقِص أجر الصيام وثوابه، وإن كان صومه لا يبطل بذلك.