بعد اثني عشر يومًا من المواجهة العسكرية التي حبست أنفاس المنطقة وأشعلت المخاوف العالمية، انتهت الحرب بين إيران وإسرائيل مع إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقف إطلاق النار ودخوله حيّز التنفيذ مساء الثلاثاء.
ولم يضع إسكات صوت المدافع، حدًا لمعركةٍ أخرى اشتعلت على الجبهة الإعلامية، إذ سارع كل طرف إلى إعلان "الانتصار التاريخي" على الآخر، في مشهد يعكس التوظيف السياسي المكثّف لنتائج الحرب أكثر من تقييم موضوعي لمآلاتها.
وتُعد هذه الحرب الأولى من نوعها بهذا الحجم المباشر بين إيران وإسرائيل، وقد أدت إلى اضطرابات عسكرية واقتصادية إقليمية، وأثارت مخاوف من تحوّلها إلى حرب إقليمية واسعة، قبل أن تُثمر الوساطات الدولية والإقليمية عن وقف إطلاق نار هش، رافقه سيل من التصريحات المنتشية بالنصر.
إسرائيل تعلن “نصرًا مدويًا”
وفي خطاب متلفز إلى الشعب الإسرائيلي مساء الثلاثاء، شدد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على أن ما تحقق خلال الاثني عشر يومًا من الحرب يمثل "انتصارًا تاريخيًا"، مؤكدًا أن إسرائيل "أثبتت أن إيران لن تحصل على سلاح نووي".
وقال نتنياهو إن الجيش الإسرائيلي "أعاد رسم الخطوط الحمراء" في المنطقة، موجهًا رسائل ردع إلى "كل من تسوّل له نفسه المساس بأمن إسرائيل".
واعتبر أن نتائج المعارك عززت من موقف إسرائيل استراتيجيًا، سواء في الداخل أو في المحافل الدولية.
وفي سياق إعلان ما وصفه بـ"العودة إلى الحياة الطبيعية"، أعلن الجيش الإسرائيلي رفع القيود التي كانت مفروضة على التجمعات العامة وأماكن العمل والمؤسسات التعليمية في مختلف أنحاء البلاد، ابتداء من الساعة الثامنة مساء الثلاثاء، بناءً على تقييم الوضع الأمني وموافقة وزير الدفاع يسرائيل كاتس.
كما أعلنت هيئة المطارات الإسرائيلية استئناف العمليات بشكل كامل في مطاري بن غوريون وحيفا، مؤكدة أن قرار الجبهة الداخلية برفع القيود الأمنية سمح بعودة النشاط الجوي إلى طبيعته، بعد أكثر من عشرة أيام من التعليق الجزئي لحركة الطيران.
إيران: صمودنا هو سر النصر
من جانبه، وجّه الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خطابًا مكتوبًا إلى الشعب الإيراني مساء الثلاثاء، أعلن فيه نهاية ما وصفها بـ"الحرب المفروضة من إسرائيل على إيران"، مؤكدًا أن "الانتصار التاريخي" الذي تحقق هو نتيجة مباشرة لصمود الشعب ووحدته في مواجهة العدوان.
وقال بزشكيان: "نحن مدينون لصمودكم ومقاومتكم، ونؤمن بعمق أن هذا الانتصار هو ثمرة الوحدة والهدوء والتلاحم الذي تجلّى خلال هذه الأيام". وأضاف أن الرد الإيراني على الهجوم الإسرائيلي "أعاد التوازن إلى معادلة الردع"، وأثبت أن "أمن إيران ليس مباحًا".
الرئيس الإيراني حاول في كلمته استثمار اللحظة لتعزيز الجبهة الداخلية، مشددًا على أن ما جرى "ليس نهاية صراع طويل الأمد"، بل هو "محطة عزّ في طريق استقلال القرار الإيراني".
من يربح الحرب الإعلامية؟
ومع توقف العمليات العسكرية، بدأت معركة السرديات؛ إذ يصرّ كل من الجانبين على تصوير المشهد كنجاح استراتيجي له، دون الكشف الكامل عن خسائره البشرية والمادية.
ففي حين تتحدث مصادر إسرائيلية غير رسمية عن دمار محدود في البنى التحتية وخسائر طفيفة، تشير مصادر مقربة من الحرس الثوري الإيراني إلى "عمليات نوعية ناجحة" طالت منشآت إسرائيلية حساسة، دون تقديم أدلة مصورة أو مؤكدة.
وتلعب منصات الإعلام الرسمي دورًا كبيرًا في تثبيت هذه السرديات لدى الرأي العام المحلي، في وقت يتزايد فيه الضغط الدولي للكشف عن تفاصيل الهجمات المتبادلة، خاصة ما يتعلق بالقدرات العسكرية التي تم استخدامها.
ورغم صمت المدافع، لم تهدأ ساحة الصراع بين إيران وإسرائيل، بل دخلت مرحلة جديدة عنوانها "حرب ما بعد الحرب"، حيث يحاول كل طرف تثبيت نصر سياسي وإعلامي يبرر ثمن المواجهة، ويمهّد للمرحلة التالية من التصعيد أو التهدئة.
وبينما تحتفي العواصم المتورطة بـ"نصرها التاريخي"، تبقى العيون الإقليمية والدولية شاخصة إلى ما هو قادم، في شرق أوسط لا يحتمل حربًا أخرى، لكنه لم يعرف يومًا السلام.
وفي خضم التباين الصاخب بين الروايات الرسمية لإسرائيل وإيران بشأن من خرج منتصرًا من الجولة العسكرية الأخيرة، شدد الباحث في العلاقات الدولية الدكتور عمرو حسين على أن الإجابة عن سؤال "من انتصر؟" ليست بسيطة، بل تتطلب قراءة متعددة الأبعاد تشمل الجانب العسكري والسياسي والمعنوي.

من المنتصر؟
وأضاف حسين في تصريحات لـ "صدى البلد"، أنه من الناحية العسكرية، لم تتمكن فصائل المقاومة من تدمير آلة الحرب الإسرائيلية بشكل مباشر، لكنها نجحت في ما هو أخطر: تثبيت معادلات ردع جديدة، فقد أظهرت قدرتها على كسر الحصار المفروض عليها وتطوير ترسانتها الصاروخية والتكتيكية، مما تسبب في صدمة كبيرة للرأي العام الإسرائيلي ودوائر صنع القرار العسكري داخل تل أبيب.
وأشار إلى أن هذا التطور مثّل تحديًا مباشرًا للهيبة العسكرية الإسرائيلية، التي لطالما اعتُبرت عنصر التفوق الأبرز في معادلة الردع. فإطلاق صواريخ دقيقة وفعالة من داخل العمق الإيراني — رغم القيود والضغوط — يُعد رسالة مفادها أن المقاومة لم تعد كيانًا محاصرًا أو معزولًا، بل طرفًا فاعلًا يُعيد رسم خطوط الاشتباك وفق قواعد جديدة.
ومن الناحية السياسية والمعنوية، اعتبر حسين أن المقاومة سجلت نقطة مهمة بكشفها عن هشاشة الجبهة الداخلية الإسرائيلية، سواء من خلال تعطيل الحياة اليومية، أو الضغط الاقتصادي، أو خلق حالة من عدم اليقين في أوساط المجتمع الإسرائيلي، الذي اعتاد الحروب السريعة والمنتهية بانتصارات حاسمة.
وقال: "المقاومة استطاعت فرض إرادة سياسية وميدانية رغم اختلال ميزان القوة التقليدي"، وهو ما يُعتبر بحد ذاته مكسبًا استراتيجيًا.
في المقابل، أشار إلى أن إسرائيل قد تعتبر نفسها خرجت من هذه الجولة دون أن تُمنى بهزيمة صريحة، لكنها أيضًا لم تُحقق نصرًا حاسمًا، الأمر الذي يضعها أمام واقع جديد أكثر تعقيدًا، فقد أصبحت تل أبيب مضطرة إلى إعادة تقييم قواعد الاشتباك، والتعامل مع مقاومة باتت تمتلك أدوات ردع حقيقية، وهو ما يعيد صياغة مشهد الصراع في المنطقة.
واختتم الدكتور عمرو حسين تصريحه بالتأكيد على أن استمرار التهدئة مرهون بتحويلها إلى مسار سياسي حقيقي يعالج جذور الأزمة، وعلى رأسها إنهاء الاحتلال ورفع الحصار وتحقيق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وفقًا للقرارات الدولية. وأضاف:
"إذا لم يتم التعامل مع هذه التهدئة كمقدمة لحل سياسي شامل، فإن ما تحقق على الأرض سيكون مجرد هدنة مؤقتة، وسنشهد جولة مقبلة قد تكون أوسع وأشدّ عنفًا، مما يُحمّل المجتمع الدولي مسؤولية تاريخية في كسر دوامة العنف، لا إدارة نتائجها فقط".