بعد شهور من الاختناق الاقتصادي والجوع الصامت، تنفست غزة أخيرًا الصعداء، لا بفعل هدنة سياسية، بل عبر شاحنات المساعدات التي تدفقت من الجنوب. في لحظة فارقة، لم تكن مجرد طرود غذائية، بل رسائل تضامن إنساني محمّلة بالأمل، قادمة من مصر. وبينما انخفضت الأسعار بشكل غير مسبوق في الأسواق الغزية، علت أصوات المواطنين بكلمة واحدة: "شكرًا مصر".
انهيار الأسعار.. فرحة مفاجئة تخترق الجوع
في مشهد غير مألوف منذ بداية الحرب، شهدت أسواق غزة اليوم انهيارًا حقيقيًا في أسعار السلع الأساسية. بعد أن كان كيلو السكر يُباع بـ400 شيكل، انخفض إلى 50 شيكل فقط. وسعر جوال الدقيق هبط من 150 شيكل إلى 15 شيكل، أما البصل الذي كان يُباع بألف شيكل، فصار في متناول اليد بـ100 شيكل فقط.
سكان القطاع الذين عانوا لأشهر من استغلال بعض التجار لحالة الحصار، خرجوا اليوم من صمتهم، لا للاحتجاج، بل للفرحة التي لم يعرفوها منذ زمن طويل. أحدهم قال: "ما كنا نحلم نشتري كيلو سكر من 3 شهور، اليوم رجعت الموائد لأطفالنا".
التجار يرضخون تحت ضغط "المساعدات المصرية"
التحول لم يكن بفعل قرار سياسي أو اقتصادي داخلي، بل نتيجة مباشرة لتدفق المساعدات المصرية التي أغرقت الأسواق. أجبرت هذه الوفرة المفاجئة التجار على التخلي عن الأسعار الجنونية، بعد أن باتت البضائع متوفرة بكميات تكفي الجميع.
وبينما كانت شحنات المساعدات تصل من الجو والبر، بدت السوق الغزية وكأنها تعود للحياة. الأرفف امتلأت، والمواطنون اصطفوا لشراء سلع طال انتظارها.
قوافل مصرية لا تهدأ.. والمشهد الإنساني يتغير
أنطلقت من القاهرة القافلة العاشرة من المساعدات الإنسانية لقطاع غزة. عشرات الآلاف من الأطنان من الأغذية والأدوية والمياه والمستلزمات الطبية غادرت مصر محملة بروح الدعم والمروءة.
وتُعد هذه القوافل جزءًا من تحالف العمل الأهلي التنموي والهلال الأحمر المصري، الذي لم يتوقف عن العمل منذ تعليق العمليات العسكرية في بعض مناطق القطاع. قناة "القاهرة الإخبارية" وصفت القافلة بأنها "شريان حياة جديد لغزة".
الهلال الأحمر المصري.. أكثر من نصف مليون طن مساعدات
الدكتورة آمال إمام، المديرة التنفيذية للهلال الأحمر المصري، أعلنت أن مصر أرسلت حتى الآن أكثر من 36 ألف شاحنة، محملة بأكثر من نصف مليون طن من المساعدات. هذا الرقم الضخم يعكس التزامًا نادرًا بدعم الأشقاء في وقت الأزمات، بعيدًا عن أي أجندات.
وأكدت إمام أن العمل يتم دون توقف من خلال مراكز الهلال الأحمر في العريش، مع تنسيق محلي ودولي يهدف لضمان وصول المساعدات إلى مستحقيها في أسرع وقت ممكن، وبدون أي عوائق.
انخفاض مفاجئ للأسعار.. بصمة مصرية واضحة
أكد اللواء نبيل السيد، الخبير الاستراتيجي، أن ما يحدث في غزة اليوم من انخفاض كبير في أسعار السلع الغذائية والاحتياجات الأساسية، ليس وليد الصدفة، بل نتيجة مباشرة للتدفق الكثيف والمنظم للمساعدات المصرية عبر معبر رفح.
"مصر لا تقدم فقط مواد غذائية، بل تُخفّف ألم شعب بأكمله"، هكذا وصف السيد المشهد، مؤكدًا أن هذه التحركات جاءت في توقيت حرج، بينما كانت غزة تغرق في أزمة إنسانية خانقة.
شهادات من داخل القطاع.. "شكراً مصر"
من قلب غزة، تناقلت وسائل الإعلام شهادات شعبية صادقة، تعكس امتنان سكان القطاع للدور المصري. بعض المواطنين تحدثوا عن سلع كانت تُباع بأضعاف ثمنها، أصبحت فجأة في متناول الجميع.
الأسواق انتعشت، والمساعدات التموينية المصرية أغرقت الرفوف، لتعيد قليلًا من الكرامة إلى أسر فقدت الأمل.
إدارة مصرية دقيقة للأزمة
الخبير الاستراتيجي أوضح أن مصر لا تتحرك عشوائيًا، بل تُدير العملية بإحكام ودقة، بالتعاون مع الهلال الأحمر المصري، وتوزيع المساعدات وفق أولويات إنسانية بحتة.
وليس هذا فحسب، فبينما تتحرك قوافل الإغاثة، تتحرك أيضًا الجهود السياسية من القاهرة باتجاه تثبيت التهدئة ووقف إطلاق النار، في تناغم يؤكد الرؤية الاستراتيجية المصرية الشاملة للأزمة.
غزة ليست وحدها.. ومصر لا تنتظر الشكر
"مصر لا تتحرك بدافع الجغرافيا فقط، بل من منطلقات تاريخية وأخلاقية"، هكذا عبّر السيد عن جوهر الدور المصري.
وأضاف: "ما تقوم به القاهرة هو موقف سياسي وإنساني ثابت، لا ينتظر المقابل، ولا يسعى للثناء، بل يقوم على إيمان راسخ بأن غزة جزء من أمن مصر القومي، وقضيتها جزء من ضمير الأمة".
حين تصبح المروءة موقفًا رسمياً
الرسالة المصرية اليوم ليست مكتوبة في بيانات سياسية، بل تُقرأ في ملامح الأطفال الذين عادت إليهم الحياة، وفي الأسواق التي استعادت نبضها.
في صمتٍ نبيل، تتحمل مصر الفاتورة الأكبر، لكنها لا تتحدث عن ذلك أمام الكاميرات، بل تترك الأفعال تتحدث عن نفسها.
في زمن باتت فيه المصالح تتقدّم على المبادئ، تظل القاهرة ثابتة في دعمها لغزة.. دون شروط، ودون حسابات ضيقة، فقط باسم الإنسانية والتاريخ والمصير المشترك.
من بين الركام، ينبعث الأمل، ومن عمق الأزمة تتجلى الأخوّة.
وهكذا، تبقى مصر، كما كانت، حاضنة الأشقاء، وسند الملهوف، وصوت الضمير العربي في زمن الصمت.