قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

محمد غنيم يكتب: استنساخ رباعيات صلاح جاهين

محمد غنيم
محمد غنيم

هل جَرَّبت يومًا أن يلتقط أحدهم من صوتك ما لم تُفصح عنه كلماتك؟ أن يسمع في نبرة صوتك تعبًا لم تُعلن عنه، أو ألمًا لم تشرحه، أو قلقًا لم تجد له توصيفًا؟ إنّها تلك القدرة الغامضة التي تُميّز الإنسان، عندما تتحوَّل بحة بسيطة في الصوت إلى مرآة لروحٍ مثقلة، أو ارتجافة في الحرف إلى اعترافٍ لا يُقال.

وربما كنتَ يومًا في محادثة مع شخص آخر، تُرسل كلماتٍ مكتوبة عادية في ظاهرها، لكن الطرف الآخر يلتقط من بين السطور دخانًا يتصاعد من غضبك، فيسألك: لماذا أنت غاضب؟ وكأنّ روحك قد سالت بين الحروف قبل أن تصل الجملة إلى عينيه.

وكيف يُمكن نسيان تلك اللحظات حين تلتقي إنسانًا للمرة الأولى، فتشعر أن قلبه مفتوح ككتابٍ أبيض، أو أن وجهه يحمل سلامًا داخليًا لا يُشترى، بينما ترى آخر فيغشاك منه ارتياب، فينغلق صدرك دون سبب ظاهر، ثم تأتي الأيام لتؤكد أن حدسك كان صادقًا؟
وكذلك البيوت، فبيتٌ تدخله لأول مرة فتغمر روحك فيه راحة وسكينة، وكأن جدرانه تحمل كثيرًا من طباع ساكنيه، وبيت آخر يضيق صدرك فيه حتى قبل أن تجلس، دون سببٍ ملموس أو تفسير عقلاني.

هذه التجارب ليست محض صدفة، بل هي البرهان على أنّ الإنسان كائنٌ مزدوج، جسدٌ تُدركه العيون، وروحٌ لا يراها إلا القلب؛ فهو ليس مجرد ملامح وصوت وخطوات، بل نسيج متكامل من مشاعر وذكريات، من طاقة غامرة وكاريزما خفية، من ذوقٍ ووعيٍ وخبراتٍ تراكمت في سراديب اللاوعي، إنّها بصمة لا تُشبه غيرها، سرٌّ داخلي عجيب يجعلك أنتَ ذاتك لا غيرك، ويجعل الإنسان متفرّدًا على باقي المخلوقات والجمادات والآلات.

أما الذكاء الاصطناعي، فبإمكانه أن يستنسخ أسلوبك، أن يحاكي طريقة حديثك، أن يرتّب الجمل كما تفعل، لكن مهما برع في التقليد، فإنّه يبقى مجرّد قشرة بلا لُبّ، صورة بلا روح، صدى بلا صوت أصيل.

قد يكتب لك شات GPT قصيدة، لكن قارئها يشعر أنها بلا دفء، وقد يحاكي انفعالك، لكن سامعه يحسّ أنه يخاطب فراغًا لا يبادله الشعور، إنّه كمن يُحادث مرآة، يرى فيها انعكاس صورتك، لكنه يعلم أنّها صورة صامتة لا حياة فيها.

قرأت عن إحدى المحاولات لاستنساخ رباعيات صلاح جاهين عن طريق الذكاء الاصطناعي، فرأيت البون الشاسع بين الأصل والمحاكاة.

لم تكن رباعيات جاهين مجرد أبيات منسّقة على وزن وقافية، بل كانت بوحًا لروحٍ متأرجحة بين السخرية والمرارة، بين الأمل والانكسار، كان في كل لفظة يختارها صدًى لوجدانه، وجزءًا أصيلًا من روحه، وفي كل تركيبٍ يبتكره انسيابٌ من أعماقه؛ لذلك بقيت كلماته خالدة، لأنّها لم تُكتب بالحبر فقط، بل كُتبت بالروح، ومتى حضرت الروح صار النص حيًّا مرتبطًا بصاحبه.

إنّ الإبداع البشري ليس مجرد فكرة تُلقى على آلة فتُعيد صياغتها، بل هو شرارة من الداخل، وموسيقى خفية لا يملك مفتاحها إلا صاحبها، قد يكون الذكاء الاصطناعي قادرًا على المحاكاة، لكنّه عاجز عن أن ينفخ في النصّ الحياة، لأنّ الحياة لا تُستنسخ، الإنسان يكتب بدماء قلبه، بارتعاشة يده، بذاكرة طفولته وجرحه السريّ، بروحه التي ترفرف في كلماته، وذلك سرٌّ لن يبلغه جهاز مهما بلغ من الدقة والتقدم.

فالفرق بين الإنسان والآلة ليس فرق مهارة فحسب، بل هو فرق جوهر: الإنسان حياة، والآلة محاكاة، الإنسان روح، والآلة قناع، والروح لا تُستعار ولا تُقلَّد؛ الروح إمضاء سرمدي على كل كلمة وكل نظرة وكل نبرة، وهي السرّ الذي يجعل الإنسان خالدًا في أثره، حتى بعد أن يغادر جسده.